باب ما يَقُولُ لِمَنْ صَنَع إلَيهِ مَعْرُوفًا
- عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهُما قال: أَمَرَ أَبِي بِخَزِيرةٍ([1]) فصُنِعَتْ، ثُمّ أمَرَنِي فأَتَيتُ بها رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: «ما هَذَا يا جَابِرُ أَلَحْمٌ هَذَا؟» – وفي رِوايةِ ابنِ أبِي صَفْوانَ([2]): «أَلَحْمٌ هَذَا؟» – قُلتُ: لا، ولكِن أَمَرَ أَبِي بِخَزِيرةٍ فصُنِعَتْ وأَمَرَنِي فأَتَيْتُكَ بِها، فأَخَذَها، ثُمّ أتَيْتُ أَبِي فقالَ: هلْ قالَ لكَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيئًا؟ فأَخبَرْتُه فقالَ أَبِي: عسَى أنْ يَكُونَ رَسلوُ اللهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَهَى اللَّحْمَ، فقامَ إلى داجِنٍ([3]) لهُ فأَمَرَ بِها فذُبِحَتْ، ثُمّ أَمَرَ بِها فشُوِيَتْ، ثُمّ أَمَرَنِي فأَتَيْتُه بِها وهو فِي مَجلِسِه – في رِوايةِ ابنِ أبِي صَفوانَ: «مَنزِلِه» – فقال: «مَا هَذَا؟»، فذكَرتُ لهُ القِصّةَ فقالَ: «جَزاكُمُ اللهُ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ خَيْرًا وَلا سِيَّمَا عَبْدُ الله بنُ عَمْرِو بنِ حَرَامٍ وَسَعْدُ بنُ عُبادَةَ»، وفي رِوايةِ ابنِ أبِي صَفوانَ: «وَلَا سِيَّمَا ءالُ عَمْرٍو» إلَى ءاخِرِه. هذا حدِيثٌ صحِيحٌ أخرجَه النَّسائيُّ.
- وفي رِوايةِ شُرَحْبِيلَ الأنصارِيّ عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَن أُعْطِيَ عَطَاءً فَلْيُكَافِئ بِهِ، وَمَن لَمْ يجِدُ فَلْيُثْنِ بِهِ([4])، فَإِنَّ مَن ذَكَرَه فَقَدْ شَكَرَهُ وَمَن كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ([5])». هذا حدِيثٌ حسَنٌ أخرجَه البُخاريُّ في «الأدَب الـمُفرَد».
- عن ابنِ عُمرَ رضي الله عنهُما قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ اسْتَعَاذَ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ([6])، وَمَنْ سَأَلَ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ([7])، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ([8])، وَمَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ([9]) مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ». هذا حدِيثٌ صحِيحٌ أخرجَه أحمدُ وأبو داودَ والنَّسائيُّ وابنُ حِبّانَ.
- عن أنَسِ رضي الله عنه أنّ الـمُهاجرِينَ قالُوا للنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ذَهَبَتِ الأَنصارُ بالأَجْرِ، قال: «لا مَا دَعَوْتُم لَهثم وأَثْنَيْتُم عَلَيْهِم([10])». هذا حدِيثٌ صحِيحٌ أخرجَه أبو داودَ.
- عن أَبي سَعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللهَ»([11]). أخرجَه أحمدُ.
- عن أُسامةَ بنِ زَيدٍ رضي الله عنهُما قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اصْطُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِه: «جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا» فَقَدْ أَبْلَغَ([12])». هذا حدِيثٌ صَحِيحٌ أخرجَه الترمذِيُّ والنَّسائِيُّ في «اليَومِ واللَّيلَةِ»، وابنُ حِبّانَ، وقال الترمذيُّ: حسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
- عن أبِي نَهِيكٍ – بِنُونٍ وكَافٍ وَزْنُ عَظِيمٍ – عن أَبِي زَيدٍ الأنصارِيّ عَمرِو بنِ أَخْطَبَ رضي الله عنه قال: استَسْقَى([13]) رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأَتَيتُه بإِناءٍ فيهِ ماءٌ وفيهِ شَعَرةٌ فأَخرَجْتُها فناوَلْتُه، فنَظَرَ إِلَيَّ فقالَ: «اللَّهُمَّ جَمِّلْهُ»، فقالَ أبو نَهِيكٍ: رأَيتُه ابنَ ثلَاثٍ وتِسعينَ سَنةً ولَيسَ في رَأْسِه ولِحيَتِه شَعرةٌ بَيضاءُ. هذا حَدِيثٌ حسَنٌ أخرجَه أحمدُ والحاكِمُ.
- عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قالَ: نَزلَ بِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَيفٌ لَيلةً فأَرسَلَ إلَى نِسائِه: «قَدْ نَزَلَ بِي ضَيْفٌ فَهَلْ عَنْدَكُنَّ شَيءٌ فأَرْسِلْنَ»، فقُلْنَ: لا والّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ ما عِندَنا إِلّا الماءُ، إِذْ دَخَلَ علَيهِ رَجلٌ مِن الأَنصارِ فقال: «يا فُلَانُ هَلْ عِنْدَكَ اللَّيْلَةَ مِن شَيءٍ تَذْهَبُ بِضَيْفِي؟»، قال: نَعَم يا نَبِيَّ اللهِ، فذَهَبَ بهِ إِلَى أَهْلِه فقالَ لِامرَأَتِه: هَل عِندَكِ مِن شَيءٍ؟ قالتْ: نَعَم خُبْزةٌ لَنا، فقالَ: قَرِّبِيها وكأَنَّكِ تُصْلِحِينَ السِّراجَ فأَطْفِئِيه، وجَعَلَ كأنَّهُ يَأكُل معَ ضَيْفِه وخَلَّا بَيْنَه وبَينَ الخُبْزَةِ فأَكَلَها الضَّيفُ وباتَ عِندَه حتَّى إِذَا أَصْبح غَدَا لِحاجَتِه، وذَهَب الأَنصارِيُّ إلَى رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: «ما صَنَعْتَ اللَّيلَةَ بِضَيْفِكَ؟»، فظَنَّ أنّه شَكاهُ، فحَدَّثَه بِحَدِيثِه الّذي صَنَعَ، فقال لهُ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لقَد أَخْبَرَنِي جِبريلُ علَيهِ السَّلامُ قَالَ: لَقَدْ عَجِبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ِمِن صَنِيعِكَ بِضَيْفِكَ»([14]). أخرجَه أبو عَوانةَ في «صَحِيحِه».
[1])) قال ابن الأثير في النّهاية (2/28): «الْخَزِيرَةُ: لَحْمٌ يَقَطَّع صِغَارًا ويُصَبُّ عَلَيْهِ ماءٌ كَثِير، فَإِذَا نَضِج ذُرَّ عَلَيْهِ الدَّقيق، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا لَحْمٌ فَهِيَ عَصِيدَة. وَقِيلَ: هِيَ حَسًا مِنْ دَقِيقٍ ودَسَم، وَقِيلَ إِذَا كَانَ مِنْ دَقيق فَهِيَ حَرِيرَةٌ، وَإِذَا كَانَ مِنْ نُخَالة فَهُوَ خَزِيرَةٌ».
[2])) هو: محمّدُ بنُ عُثمانَ بنِ أَبِي صَفْوانَ الثّقَفِيّ.
[3])) قال ابن الأثير في النّهاية (2/102): «وهي الشّاةُ الّتي يَعلِفُها النّاسُ في منَازلِهم. يقال: شاةٌ داجٍنٌ، ودَجَنَتْ تَدجُنُ دُجونًا، والـمُداجَنةُ حُسنُ الـمُخالَطةِ. وقد يَقَع علَى غَيرِ الشّاءِ مِن كُلِّ ما يَأَلَفُ البُيوتَ مِن الطَّيرِ وغَيرِها».
[4])) قال الـمُظهِريّ في المفاتيح (3/519): «(مَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً)، يَعنِي: مَن أَحسَنَ إِليه أحَدٌ إِحسانًا مِن مالٍ أو فِعلٍ أو قَولٍ حسَنٍ فليَكُن عارِفًا حَقَّه علَى نَفْسِه، فإنْ وَجَدَ مالًا فليُحْسِن إليه بالمالِ أو ليُقابِل فِعلَه وقَولَه الحسَنَ بمِثلِه، فإنْ عَجَزَ عن مُقابلَتِه بالمالِ والفِعلِ (فَلْيُثْنِ عَلَيْهِ)، أي: فليَدْعُ له بِخَيرٍ وليَشكُر له».
[5])) قال الملّا عليّ في المرقاة (5/2011): «(فإنْ أَثنَى بِهِ فَقَدْ شَكَرَ) وفي رِوايةٍ: «شَكَرَهُ»، أي: جازاه في الجُملةِ (وَمَنْ كَتَمَ)، أي: النِّعمةَ بعدَمِ الـمُكافأةِ بالعَطاءِ أو الـمُجازاةِ بالثَّناءِ (فَقَدْ كَفَرَ)، أي: النِّعمةَ، مِن الكُفْرانِ، أي: تَركِ أَداءِ حَقِّه».
[6])) قال الطِّيبيّ في شرح المشكاة (5/1566): «إِذَا طَلَبَ أَحَدٌ أنْ يَدفَع عنه شَرًّا، وأعاذَه إذَا دَفَع عنه الشَّرّ الّذِي يَطلُبُ مِنهُ دَفْعَه، يَعنِي: إذَا طَلَبَ أحَدٌ مِنكُم أنْ تَدفَعُوا عنه شَرَّكُم أو شرَّ غَيرِكُم باللهِ، مِثلُ قَولِك: «يا فُلانُ باللهِ عَلَيكَ أنْ تَدفَعَ عَنِّي شَرَّ فُلانٍ وإيذاءَه أو احْفَظْنِي مِن شَرِّ فُلانٍ» فأَجِيبُوه واحفَظُوه».
[7])) قال الشّهاب الرَّمليّ في شرح أبي داود (8/68): «(وَمَنْ سَأَلَ بِاللهِ فَأَعْطوهُ)، أي: ما لَم يَسألْ أَمرًا قَبِيحًا لا يَلِيقُ».
[8])) قال الشّهاب الرَّمليّ في شرح أبي داود (19/366): «(وَمَنْ دَعاكُم فأَجِيبُوهُ) الدُّعاءُ إنْ كان لِوَلِيةِ العُرسِ فالإِجابةُ واجِبةٌ لَكِن تَسقُط بأَعذارٍ، وإنْ كانَ لِغَيرِها فالجمهورُ قالُوا: لا تَجِبُ الإجابةُ لها لكِن بل تُستَحبُّ لهذا الحدِيثِ وغيرِه».
[9])) الرِّوايةُ بالـمَدّ في «ءَاتَى»، ومعناهُ: أعطاكُم.
[10])) أي: فإنْ فعَلتُم ذلكَ فقَد أُجِرْتُم أيضًا.
[11])) قال شيخنا رحمه الله: «الشُّكرُ المندُوبُ هو الثّناءُ على اللهِ تعالى الدّالُ على أنّه هو الـمُتفضِّلُ علَى العِبادِ بالنّعَم الّتِي أنْعَم بِها علَيهِم ممّا لا يَدخُل تَحتَ إِحصائِنا. ويُطلَقُ الشُّكرُ شَرعًا علَى القِيامِ بالـمُكافَأَةِ لِمَنْ أَسْدَى مَعْرُوفًا مِن العِبادِ بَعضِهم لِبَعضٍ، ومِن هذا البابِ الحدِيثُ الـمَشهورُ: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشكْرِ اللهَ» أخرجَه الترمذِيُّ في «سُنَنِه»، أي: أنّ كَمالَ شُكرِ اللهِ يَقتَضِي شُكرَ النّاسِ، وشُكرُ النّاسِ يَكونُ بالـمُكافَأةِ والدُّعاءِ ونَحوِ ذلكَ».
[12])) قال الملّا عليّ في المرقاة (5/2012): «(جَزاكَ اللهُ خَيْرًا)، أي: خَيرَ الجَزاءِ أو أَعطاكَ خَيرًا مِن خَيرَي الدُّنيا والآخِرة (فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ)، أي: بالَغَ في أَداءِ شُكرِه».
وقال المناويّ في فيض القدير (6/172): «(فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ) لاعتِرافِه بالتَّقصِير ولِعَجزِه عن جَزائِه فَوَّضَ جَزاءَه إلى اللهِ لِيَجزِيَه الجزاءَ الأَوفَى. قال بعضُهم: إذَا قَصُرَت يدَاكُ بالـمُكافأةِ فليَطُل لِسانُك بالشُّكر والدُّعاء بالجَزاءِ الأَوْفَى».
[13])) أي: طلَبَ الشُّربَ.
[14])) قال القاضي عِياضٌ في الإكمال (6/543): «(عَجِبَ رَبُكُّم مِن صَنِيعِكُمُ اللَّيلَةَ)، أي: رَضِيَ فِعلَ ذلكَ، وقيل: جازَى وأثابَ عليه، وقيل: عَظثم فِعلُه ذلكَ عِندَ الله». مختصرًا. وقال شيخنا رحمه الله: «روَى البُخاريّ أنّ رسولَ اللهِ r قال: «عَجِب رَبُّكَ لِقَومٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِالسَّلَاسِلِ» عَجِبَ، مَعناهُ: رَحمَهُم، ومَعناهُ: أنّهم يُساقُونَ للإسلامِ، كَثِيرٌ مِنهُم أَوّلَ الأمرِ يُجبَرُون ثُمّ قلُوبُهم تَثبُت علَى ذلكَ».