وأعَلَّه بَعضُهم بعِلَّتَينِ:
الأُولَى: تَدلِيسُ الوَليدِ وتَسوِيَتُه، وليسَتْ بِوارِدةٍ لأنّه صَرَّحَ بالتّحدِيث فانتَفَى التَّدلِيسُ، وبَيَّنَ أنّ رِوايةَ الَأوزاعِيّ عن قَـادةَ مُكاتَبةٌ فانتَفَتِ التَّسوِيةُ، وقد صَرَّحَ قَتادةُ بالتَّحدِيثِ عن أنَسٍ لِهَذا الحَدِيثِ وسَماعِه له مِنهُ كما سَيأتِي فانتَفَتِ التَّسوِيةُ.
العِلّةُ الثّانِيةُ: إبهامُ مَن كَتَبَ إلَى الأوزاعِيّ بإِذْنِ قَتادةَ لأنّ قَتادةَ وُلِدَ أَكْمَهَ فَتَعَيَّنَ أن يكُونَ أَمْلَى على مَن كَتَبَ عَنهُ إِلَى الأوزاعِيّ، فيَحتَمِلُ أن يكُونَ مَجرُوحًا أو غيرَ ضابِطٍ فلا تَقُومُ بِه الحُجّةُ.
وقَد رَوَى هذا الحدِيثَ جَماعةٌ مِن أصحابِ الأوزاعِيّ عنه؛ فمِنهُم: مَن عَنْعَنَهُ، ومِنهُم: مَنْ أفصَحَ بصُورَة الحالِ([9]) كما أَفصَحَ الوَلِيدُ، وأخرجَه أحمدُ عن أبِي الـمُغِيرةِ عبدِ القُدُّوسِ بنِ الحَجّاجِ وهو مِن شُيُوخ البُخاريّ مِثلَ رِواية الوليدِ سواءً في سِياقِ الإسنادِ والـمَتنِ لكِنّه قالَ قَتادةُ: حَدَّثَنِي أنَسٌ. وهكذَا أخرجَه أبو عَوانةَ في صَحِيحه مِن طَرِيق بِشْرِ بنِ بَكرٍ عن الأوزاعيّ، وكُلُّ ذلكَ مما يُقَوِّي رِوايةَ الوَلِيدِ، وكنتُ أَظُنُّ العِلّةَ الثّانِيةَ وارِدةً حتَّى وَقَفتُ علَى رِوايةٍ أُخرَى عن قَتادةَ أصَحَّ مِن رِوايةِ الأوزاعيّ؛ فقد روَى محَمّدُ بنُ إسماعيلَ بنِ أبِي الفَتحِ سماعًا عن فاطِمةَ بِنتِ سَعدِ الخَيرِ أنّه سَمِعَها قالتْ: أخبرَنا أبو القاسِم الشَّحّامِيُّ أخبرَنا أبو سَعِيدٍ الأدِيبُ أخبرَنا أبو عَمرِو بنُ حَمْدانَ حدّثَنا أبو يَعلَى حدّثَنا محمّدٌ هو أبو موسَى بنُ الـمُثنَّى حدّثَنا محمّدُ بنُ جَعفرٍ حدّثَنا شُعبةُ عن قَتادةَ عن أنَسٍ قال: صَلَّيتُ خَلْفَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وخَلْفَ أبِي بَكرٍ وخَلْفَ عُثمانَ رضي الله عنهُما فلَم يَكُونُوا يَستَفتِحُونَ القِراءةَ بـ{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمـٰـنِ الرَّحِيمِ}. قال شُعبةُ: قلتُ لِقَتادةَ: أسمِعتَه مِن أنَسٍ؟ قالَ: نَعَم نَحنُ سَألْناه عنهُ. أخرجَه أحمدُ والإسماعِيليُّ.
وأمّا رِواية تَركِ الجَهْر فهِي مِن طَرِيقِ علِيّ بنِ الجَعْدِ قال حدّثَنا شُعبةُ وشَيْبانُ قالا حدّثَنا قَتادةُ عن أنَسٍ قال: صَلَّيتُ خَلْفَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأبِي بَكرٍ وخَلْفَ عُثمانَ رضي الله عنهُما فلَم أَسمَعْ أحَدًا مِنهُم يَجْهَرُ بـ{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمـٰـنِ الرَّحِيمِ}. أخرجَه الدارَقطنيُّ وابنُ حِبّانَ، وجاء ذلكَ مِن غَيرِ رِوايةِ قَـادةَ عن أنَسٍ.
وبالسّنَدِ إلى سُفيانَ الثّورِيّ قال حدّثَنا خالِدٌ هو الحَذّاءُ عن أبِي نَعامةَ عن أنَسٍ رضي الله عنه قال: كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وأبو بَكرٍ وعمَرُ لا يَجْهَرُونَ بـ{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمـٰـنِ الرَّحِيمِ}. أخرجَه أحمدُ وابنُ حِبّانَ.
وبالسّنَدِ إلى عِمرانَ القَصِيرِ عن الحسنِ عن أنَسٍ رضي الله عنه «أنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يُسِرُّ بـ{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمـٰـنِ الرَّحِيمِ} وأبو بَكرٍ وعمَرُ». هذا حدِيثٌ غرِيبٌ مِن حَديث عِمرانَ أخرجَه ابنُ خُزيمةَ عن أحمدَ بنِ رَجاءٍ عن سُوَيدٍ، وسُوَيدٌ فِيه ضَعفٌ([10])، لكِن جاءَ مِن طَرِيقٍ أُخرَى عن الحسَنِ؛ فقد أخرجَ الطبَرانيُّ مِن حديثِ مُعتَمِرِ بنِ سُلَيمانَ عن أبِيه عن الحسَنِ، فذَكَر مِثلَه.
وأمّا التّصريحُ بالجَهْرِ فتَقدَّم مِن وَجهٍ ءاخَرَ عن أنَسٍ إنكارُ الـمُهاجرِينَ والأنصارِ على مُعاويةَ حِينَ ترَكَ الجَهْرَ بِها، وفِيه: «ثُمّ عادَ فجَهَرَ بِها»، أي: الفاتِحةِ والسّورةِ الّتي تَلِيها.
أمّا الجَوابُ عمّا أَخرجَه البُخاريّ مِن طَرِيقِ جَريرِ بنِ حازمٍ وهَمّامٍ عن قَتادَة قال: «سُئِلَ أنَسٌ عن قِراءةِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فقال: كانتْ مَدًّا([11])، ثُمّ قَرأَ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمـٰـنِ الرَّحِيمِ} يمُدُّ {بِسْمِ اللهِ} ويَمُدُّ {الرَّحْمـٰـنِ} ويَمُدُّ {الرَّحِيمِ}» فلا دِلالةَ فِيه لاحتِمال أنْ يكُونَ قَصَدَ المثل إذْ لَم يُقَيِّدْ بالصّلاةِ ولا بأَوّلِ السُّورةِ ثُمّ جاء التَّقيِيدُ بأوّلِ السُّورةِ مِن وَجهٍ ءاخَرَ عن أنَسٍ أيضًا.
وبالسّنَدِ إلى محمّدِ بنِ فُضَيلٍ عنِ الـمُختارِ بنِ فُلفُلٍ عن أنسٍ رضي الله عنه قال: أغْفَى رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِغْفاءةً([12]) فرَفَع رأْسَه مُتَبَسِّمًا، فإِمّا قالَ لهُم وإِمّا قالوا لهُ: مِمَّ ضَحِكْتَ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ ءانِفًا سُورَةٌ» ثُمّ قَرَأَ: «{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمـٰـنِ الرَّحِيمِ} {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}([13])» حتَّى خَتَمَها ثُمّ قال: «أَتَدْرُونَ مَا الكَوْثَرُ؟» قالوا: اللهُ ورَسُولُه أَعلَمُ، قال: «هُوَ نَهَرٌ في الجَنَّةِ عَلَيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيهِ أُمَّتِي، ءانِيَتُهُ عَدَدَ الكَواكِب» هذا حدِيثٌ صَحِيحٌ أخرجَه أحمدُ وأبو داودَ، وأخرجَه مُسلِمٌ عن أبِي كُرَيبٍ عن محمّدِ بنِ فَضيلٍ، وأخرجَه هو والنَّسائيُّ مِن وَجهٍ ءاخَرَ عن الـمُختارِ.
وأمّا رِوايةُ التّردِيدِ فأخرجَها أحمدُ مِن رِوايةِ أبِي مَسْلَمةَ سَعِيدِ بنِ يَزيدَ قال: سأَلتُ أنسَ بنَ مالِكٍ: أكانَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفتَتِحُ الصّلاةَ بـ{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمـٰـنِ الرَّحِيمِ} أو بـ{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؟ فقال: إِنّكَ لَتَسأَلُني عن شَيءٍ ما أَحفَظُه وما سأَلَنِي عنهُ أَحدٌ قَبلَكَ. وهو حدِيثٌ صحِيحٌ علَى شَرطِ الشَّيخَينِ وصحَّحَهُ ابنُ خُزيمةَ والدارَقطنِيُّ وغيرُهما.
وقَد جاءَ عن أنَسٍ الجزمُ بأَحَدِ الأمرَين؛ أخرجَ البُخاريّ عن الحَوضِيّ عن شُعبةَ عن قَـادةَ عن أنَسٍ «أنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بَكرٍ وعُمرَ كانوا يَفتَتِحُونَ القِراءةَ بـ{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}»، وقَد رَجَّحَ الشّافعِيُّ هذِه الرِّوايةَ على غَيرِها وحمَلَ اللَّفظَ على إِرادةِ السُّورةِ، ويُؤيِّدُه ثُبوتُ تَسمِيةِ الفاتحةِ بـ{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وهو عند البُخارِيّ في حدِيثِ أبِي سَعِيدِ بنِ الـمُعَلَّى.
ووَرد الجَهرُ بالتَّسمِيةِ مِن وَجهٍ صحِيحٍ مِن غَيرِ حَدِيثِ أنَسٍ؛ فعَن نُعَيمٍ الـمُجْمِرِ([14]) قال: صلَّى بِنا أبو هُريرة فقَرأ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمـٰـنِ الرَّحِيمِ} حتَّى بَلَغَ {وَلَا الضَّالِّينَ} فقال: ءامِينَ، ويُكَبِّرُ إذَا ركَعَ وإِذَا سَجَدَ، فلَمّا سَلَّمَ قال: «والّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لأَشْبَهُكُم صَلاةً بِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم». هذا حدِيثٌ صحِيحٌ أخرجَه النَّسائيُّ وغيرُه.
وثَبَت عن أبِي هُريرةَ أنّه كن يَتَّبعُ في الإعلانِ والإسرارِ؛ فعَنِ ابنِ جُرَيجٍ أنّه سَمِعَ عَطاءً يُحَدِّثُ أنّ أبا هُريرةَ حَدّثَه قال: «فِي كُلِّ صَلاةٍ قِراءةٌ، فما أَعْلَنَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أعْلَنّا لَكُم، وما أَخْفَى علَينا أَخْفَينا عَنكُم». هذا حدِيثٌ صحِيحٌ أخرجَه أحمدُ.
[1])) قال شيخنا رحمه الله: «بِاسمِ اللهِ أي أبتَدِئُ بِاسمِ اللهِ، ولَفظُ الجَلالةِ «اللهُ» عَلَمٌ لِلذّاتِ الـمُقَدَّسِ الـمُستَحِقِّ لنِهايةِ التَّعظِيمِ وغايةِ الخُضُوعِ، ومَعناهُ مَن لهُ الإلهيّةُ وهي القُدرةُ علَى الاختِراعِ، أي: إخراجِ الـمَعدُومِ مِن العدَمِ إلى الوجُودِ، والرَّحمنُ مَعناهُ الكَثِيرُ الرَّحمةِ بالـمُؤمنِينَ والكافرِينَ في الدُّنيا وبالـمُؤمنينَ في الآخِرةِ، أمّا الرَّحِيمُ، فمَعناهُ الكَثِيرُ الرَّحمةِ بِالـمُؤمنِينَ».
وقال أيضًا: «قِراءةُ البَسْمَلةِ أَلْفَ مَرّةٍ يَنفَعُ لِقَضاءِ الحاجةِ علَى نيّةٍ مَخصُوصةٍ، وكذلك لَو قُرِئَتِ البَسْمَلةُ 876 مَرّةً كمَا هو الرّقَمُ علَى حِسابِ الجُمَّلِ. وكِتابَتُها أيضًا خَمْسًا وثَلاثِينَ مَرّةً يَنْفَعُ لِتَيسِير الرِّزقِ، يُوضَعُ علَى باب الدُّكّانِ لِرَواجِ البِضاعةِ أو تُحمَلُ».
[2])) الـمَثانِي ما وَلِيَ المئِينَ، سُمِّيَتْ بذلكَ لأنّها ثَنَتْها، أي: ولِيَتْها. وقال الفَرّاءُ: هي السُّورةُ الّتِي ءايُها أقلُّ مِن مائةٍ لأنّها تُثنَّى (أي: تُكرَّرُ) أَكثرَ مِمّا يُثنَّى الطّوالُ والـمِئُونَ، وقيل: لِتثْنِيةِ الأمثالِ فيها بالعِبَرِ والخبَرِ، قاله السُّيوطيّ في «الإتقان» (1/220)..
[3])) قال شيخنا رحمه الله: «سُورةُ بَراءةَ لا يَجُوزُ قِراءةُ البَسْمَلةِ أَوَّلَها لأنَّ بَراءةَ نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ، أي: بِقِتالِ الكُفّارِ، لِلتَّحرِيضِ الشَّدِيدِ فِيها أَكْثَر مِمّا فِي غَيرِها، وكانَ عبدُ اللهِ بنُ عَبّاسٍ رضي الله عنهُما يُسَمِّيها الفاضِحةَ لأنّها تَفْضَحث الـمُنافِقِينَ».
[4])) الـمِئُونَ ما وَلِيَ السَّبعَ الطِّوالَ، سُمِّيتْ بذلكَ لأنّ كلَّ سُورةٍ مِنها تَزِيدُ علَى مائةِ ءايةٍ أو تُقارِبُها.
[5])) أي: الكَثِيرة.
[6])) هكذا في الأصل.
[7])) قال المجدُ بن الأثير في الشّافِي (1/553): «(أَسَرقْتَ الصَّلاةَ)، أي: أخَذَت بَعضَها فكتَمْتَه».
[8])) قال النّوويّ في المجموع (3/349): «هو ما اعتمَده الإمامُ الشافعِيُّ مِن إجماعِ أهلِ المدِينةِ في عَصرِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم».
[9])) أي: بأنْ يُبيِّنَ أنّه أخذَه بلا سنَدٍ، قاله زكريّا الأنصاريّ في «فتح الباقي» (2/89).
[10])) قال شيخنا رحمه الله: «يَعنِي: أنّ سُويدَ بنَ عبدِ العَزِيزِ الرّاوِيَ عن عِمرانَ ضَعِيفٌ».
[11])) قال شيخنا رحمه الله: «معناه: الترَسُّل مع تِبْيانِ الـمُدودِ وإِظهارِها».
[12])) قال شيخنا رحمه الله: «هذه الإغْفاءةُ ليسَتِ الإغفاءةَ الّتي تَحصُل لِعَوامِّ النّاسِ ولا هي نَومٌ، إنّما هي حالةٌ تُشبِهُ النَّومَ، لأنّ القُرءانَ كُلَّه قَرَاَه علَيه جِبريلُ يَقَظَةً، هذَا الّذي لا يَجوزُ اعتِقادُ خِلافِه».
[13])) قال شيخنا رحمه الله: «الكَوثَرُ يقُولُ بعضُ العُلَماءِ: مَعناهُ: الخَيرُ الكَثِيرُ، ومِن الخَيرِ الكَثِير الّذي أَعطاهُ اللهُ لسَيِّدِنا محمّدٍ r نهَرُ الكضوثرِ الَّذِي في الجنّةِ. هذا الكَوثرُ هو نَهرٌ في الجنّةِ علَى حافَتَيهِ قِبابُ اللُّؤلؤِ، هو أَصلُه في الجنّةِ لكِن يَصُبُّ في مَكانٍ يُسمَّى الحَوضَ خارِجَ الجنّةِ لِيَشرَبَ مِنهُ الـمُؤمِنونَ قَبلَ دُخولِهِمُ الجنّةَ فيَكونُونَ دَخَلُوا الجنّةَ وهُم لا يَشْكُونَ عَطَشًا، لا يَظمَأُ مَن شَرِبَ مِنهُ أَبًدًا إنّمَا يَشرَبُونَ بَعدَ دُخولِ الجنّةِ تلَذُّذًا».
[14])) بضمّ الـمِيم الأُولى وإسكانِ الجِيم وكَسرِ الـمِيم الثانِية. ويُقال: الـمُجَمِّر بفَتح الجِيم وتَشدِيد الـمِيمِ الثانيةِ المكسورةِ.