الجمعة ديسمبر 13, 2024

باب ذكر كفالة أبي طالب له ومتعلقات ذلك

باب ذكر كفالة أبي طالب له ومتعلقات ذلك . والكفالة القيام بأمر الطفل وترتيبه

أوصى به جده عبدُ المطلب *** إلى أبي طالب الحامي الحَدِب

يكفله بعدُ فكانت نشأته *** طاهرة    مأمونة غائلته

لما احتضر عبد المطلب أوصى بالمصطفى إلى عمه أبي طالب لأنه كان شقيق أبيه، فصار أبو طالب هو الحامي له من أعدائه، والحدب بفتح الحاء وكسر الدال المهملتين أي الشفوق عليه، حتى إنه كان إذا أراد أن يعشي أولاده يقول: “مكانكم حتى يأتيَ ابني محمدًا”، وكان أبو طالب فقيرًا فأثرى وكثر ماله ببركة كفالته للمصطفى. وكانت نشأته طاهرة مطهرة من دنس الجاهلية وجميع العيوب والأخلاق الردية والنقائص الحسية والمعنوية، مأمونة غائلته أي خديعته ومكره. وقول الناظم: “يكفله بعد” بالضم لحذف المضاف إليه أي بعد ذلك، وقوله: “طاهرة” بالنصب خبر كان.

فكان يُدعى بالأمين ورحلْ *** مع عمه للشام حتى إذ وصل

بُصرى رأى منه بحيرا الراهبُ *** ما دلّ أنه      النبي العاقبُ

محمد نبي هذه الامة *** فردّه تخوفًا من ثمَّهْ

مِنْ أن يرى بعضُ اليهودُ أمره *** وعمره إذ ذاك ثِنتا عشرهْ

كان المصطفى يدعى في قومه بالأمين لما شاهدوا من أمانته وصدق حديثه، ولما بلغ من العمر اثنتي عشرة في قول ابن سعد [1]، وثلاث عشرة في قول ابن عبد البر، وتسع سنين في قول المارودي، رحل عليه السلام مع عمه أبي طالب في ركب إلى الشام في تجارة فسار حتى وصل إلى بصرى وكان بها راهب يسمى بحيرا بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة وزيادة ألف بعد الراء، وكان قد انتهى إليه علم النصرانية، فتأمله فرأى من ءاياته ما دل على أنه النبي العاقب الهادي نبي هذه الأمة وذلك لأنه رأى غمامة تظله من بين القوم وهو راكب، فلما نزل تحت شجرة تهصرت [2] أغصانها عليه حتى أظلته، فصنع بحيرا للقوم طعامًا وأضافهم وقال لعمه أبي طالب: “ارجع بابن أخيك واحذر عليه اليهود أن يروا بعض صفاته فيعرفوا أنه النبي المبعوث من العرب فربما تحيلوا على اغتياله فإنه كائن له شأن عظيم” فرده عمه، “من ثمه” بفتح الثاء وشدة الميم وهاء السكت أي من هناك خوفًا عليه، فأسرع به إلى مكة. وما في جامع الترمذي [3] من أن عمه والصديق بعثا معه بلالًا وزودهما بحيرا كعكًا وزيتًا، فقالوا: إنه متن منكر، لان بلالًا لم يكن لأبي بكر حينئذ ولأن أبا بكر كان سِنّه إذ ذاك دون العشر فإنه أصغر سنًا من المصطفى والمصطفى كان سنه إذ ذاك اثني عشرة على ما تقدم.

والراهب عابد النصارى [4] من رهب رهبًا خاف فهو راهب من الله، والله مرهوب والأصل مرهوبٌ عِقابه، والجمع رهبان، وترهب الراهب انقطع للعبادة.

ثم مضى للشام مع ميسرة *** في متجر  والمالُ من خديجة

من قبل تزويجٍ بها فبلغا *** بُصرى فباع وتقاضى ما بغى

ثم لما بلغ من العمر خمسًا وعشرين سنة مضى مرة ثانية إلى الشام مع ميسرة غلام خديجة وذلك أن عمه قال له: “أنا لا مال لي، وخديجة ترسل من يتجر لها فيصيبون منافع فلو جئتها لأسرعت إليك” فبلغها فأرسلت إليه فقالت: “أعطيك ضعف ما أعطي غيرك لأمانتك” فأجاب وخرج مع غلامها ميسرة وذلك من قبل تزويجه بها، حتى بلغا بصرى لاربع عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وعشرين من الفيل فنزل في ظل شجرة بقرب صومعة راهب يسمى نسطورا فاطلع فقال لميسرة: “من هذا”؟ قال: رجل من قريش، فقال: “ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي”، فوعاها ميسرة، ثم حضرا سوق بصرى فباع النبي المتاع وتقاضى أي طالب بثمنه وقبضه واشترى ما بغى بموحدة أي طلب، يقال: بغيته أبغيه طلبته، والاسم البُغاء وزان غراب.

وقد رأى ميسرة العجائبا *** منه وما خُصّ     به مواهبا

وحدّث السيدة الجليلهْ *** خديجة الكبرى فأحصت قِيلَهْ

ورغبت فخطبت محمدًا *** فيا لها من    خطبة ما أسعدا

وووكان إذ زُوّجها ابنَ خمس *** من بعد عشرين بغير لَبْسِ

ثم لما باع عليه السلام واشترى رجع وقد رأى ميسرة منه العجائب الكثيرة منها: أنه اختلف مع رجل في بيع سلعة فقال له الجل: أتحلف باللات والعزى، قال: ما حلفت بهما قط ولا أفعل، فعاد الرجل وصدقه، ورأى ميسرة أيضًا ما خص به من الآيات وذلك كله مواهب من الله لا بطريق الكسب ولا من جهة الاستعداد، ومن ذلك أن الغمامة كانت تظله، فحدث ميسرة السيدة الجليلة خديجة الكبرى، وفي نسخة: “الفضلى” بضم الفاء كالجبلى، بقول ذاك الراهب وبما أبصره من الخوارق والعجائب التي من تباشير النبوة وءاياتها “فاحصت” أي ضبطت خديجة قيله –بكسر القاف وسكون التحتية- أيو قول ميسرة، ثم رأت ربح التجارة ضعف ما كان يربحه غيره فرغبت في نكاحه فخطبته “فيا لها من خطبة” بكسر الخاء ما أسعدها وأبركها، فزوجها منه أبوها، وقيل: إنه كان قد مات وإنما زوجها منه عمها، وقيل: أخوها [5]، وكان إذ أي حين زُوجها بالبناء للمفعول ابن خمس وعشرين سنة، “بغير لبس” أي شك واشتباه أي بالنسبة للسنين الكاملة، أما الشهور فكان بعدها شهران وعشرة أيام من يوم الفيل على ما ذكره ابن عبد البر. ونفي الناظم الشك في ذلك يوهم أنه لا خلاف فيه والامر بخلافه بل وراء ذلك أقوال أخر فقيل: كان سنه يومئذ ثلاثين سنة، وقيل: إحدى وعشرين وعليه الزهري، نعم ما جرى عليه الناظم هو الأصح.

وكان عمرها هي نحو أربعين سنة، وتزوجت برجلين قبله وأتت بولدين، وألِفُ “العجائبا” و”مواهبا” للإطلاق، و”زوجها” مبني للمجهول، وقوله: “ابن” بالنصب خبر كان، ولام لبس بالفتح بضبط الناظم، والرؤية معاينة الشيء بحاسة البصر، والرغبة إرادة الشيء والحرص على تحصيله، والخطبة بكسر الخاء اسم من خطب إلى القوم إذا طلب أن يتزوج منهم.

[1] طبقات ابن سعد [1/97].

[2] في لسان العرب [5/264]: هصر الشيء يهصره هصرًا جبذه وأماله، وفي الحديث: أنه كان مع أبي طالب فنزل تحت شجرة فتهصرت أغصان الشجرة أي تهدلت عليه.

[3] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب المناقب: باب ما جاء في بدء نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.

[4] ويطلق على الذين كانوا على الإسلام من أتباع سيدنا عيسى عليه السلام وعلى من بدل بعد ذلك.

[5] بصيغة وشهود ولو كانوا من الجاهليين، في ذلك الزمن الكفار نكاحهم يصح.