الإثنين أبريل 21, 2025

باب الحُبِّ فِي اللهِ

  • عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «سَبْعَةٌ فِي ظِلِّ العَرْشِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ([1]): رَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ فَفاضَتْ عَيْناهُ([2])، وَرَجُلٌ قَلْبُه مُعَلَّقٌ بِالـمَساجِدِ مِن شِدَّةِ حُبِّهِ إِيَّاهَا([3])، وَرجُلٌ يُحِبُّ عَبْدًا لا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ([4])، وَإِمامٌ مُقْسِطٌ فِي رَعيَّتِهِ([5])، وَرَجُلٌ يُعْطِي الصَّدَقَةَ بيَمِينِهِ يَكَادُ يُخْفِيهَا عَنْ شِمَالِهِ([6])، وَرَجُلٌ عَرَضَتْ عَلَيهِ امْرَأَةٌ نَفْسَها ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمالٍ([7]) فَتَرَكَها لِجَلَالِ اللهِ([8])، وَرجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ([9]) مَعَ قَوْمٍ فَلَقُوا الْعَدُوَّ فَانْكَشَفُوا فَحَمَى ءاثَارَهُمْ([10]) حَتَّى نَجَوْا وَنَجَا أَوِ اسْتُشْهِدَ». هذا حدِيثٌ حسَنٌ غرِيبٌ جدًّا في غالِبِ أَلْفاظِه.

[1])) أي: إلّا ظِلُ العَرشِ. قال شيخنا رحمه الله: «تعظِيمًا للعَرشِ وتَعظِيمًا لذلك الظِلِّ قال الرَّسولُ r: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظلُّهُ» كما جاء في روايةٍ، ويوجَد نحوُ عشرِين ءاخَرِين يُظِلُّهُم اللهُ في ظِلِّ العَرشِ أيضًا. في الدُّنيا يُوجَدُ بُيوتٌ وكُهُوفٌ يَدخُل إليها الإنسانُ أو يَجلِسُ تحتَ شجَرةٍ إذَا أرادَ أن يَهرُبَ مِن الشَّمس، يومَ القيامةِ لا يُوجَدُ في عَرَصاتِ القِيامةِ هذا، لا بَيتٌ يَقِي الشّخصَ ولا كَهفٌ، ولا مَغارةٌ ولا شَجَرةٌ ولا غابةٌ مِن الغابات، إنّما هناكَ الشّيء الّذي يَقِي الإنسانَ مِن حَرّ الشّمسِ ظِلُ العَرش، هذا معنَى: «سَبعةٌ يُظلُّهمُ اللهُ يومَ القيامَة في ظِلِهِ يَومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه»».

[2])) قال الشّهاب الكوراني في الكوثر الجاري (10/160): «الفَيضُ سيَلانٌ معَ الكَيرة، وإسنادُه إلى العَين إسنادٌ إلى المحَلّ مَجازًا مبالغةً».

وقال النّوَويّ في شرح مسلم (7/123): «فيهِ فَضِيلةُ البُكاءِ مِن خَشيةِ الله تعالَى وفَضلُ طاعةِ السِّرّ لِكَمالِ الإخلاصِ فيها».

وقال شيخنا رحمه الله: «(وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خالِيًا فَفاضَتْ عَيْناهُ) معناهُ: لو حَصَل ذلكَ مِنه ولو مَرّةً واحِدةً، مَعناه: ذَكَر اللهَ بقَلبه. الذِّكْرُ القَلبِي هو الخشُوع واستِحضارُ الخَوفِ مِن اللهِ وتعظِيمُ اللهِ ومحَبّةُ الله، أمّا مجَرُّد إمرارِ لفظِ الذِّكر على القَلبِ بدُونِ هذا لا يُعَدُّ ذِكرًا. لو ذَكَرَ اللهَ إنسانٌ وَحدَهُ فأخَذَتْه الخَشْةُ ففاضَت عَيناهُ مِن خَشيةِ الله وهوَ مُنفَرِدٌ عن النّاسِ حَصَلَ لهُ ذلكَ. وجاء في حدِيثٍ: «عَيْنَانٍ لا تَمَسُّهُما النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِن خَشْيَةِ اللهِ، وَعَينٌ باتَتْ تَحرُسُ في سَبِيلِ اللهِ» رواه الترمذِيُّ، وهو شاملٌ لبَعضِ العُصاة كذلكَ، لأنّ بَعضَ العُصاةِ يَبكُونَ مِنْ خَشيَةِ الله، المرادُ بهِ أنّه بكَى مِن خَشيَةِ الله لأنّه عَصَى خَجِلَ مِن رَبِّه».

[3])) قال أبو العبّاس القُرطبيّ في الـمُفهِم (3/76): «(وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الـمَسَاجِدِ)، أي: يُحِبُّ الكُونَ فيها للصّلاةِ والذِّكر وقراءة القرءان، وهذا إنما يكُون مِمّن استَغْرَقَه حبُّ الصلاةِ والمحافَظةِ علَيها وشُغِف بها».

وقال الحافظ العسقلاني في الفتح (7/121): «هكَذا هو في نُسخِ البُخاريّ كُلِّها «فِي الـمَسَاجِدِ» وفي غير هذه الرواية «بِالـمَسَاجِدِ»، ووقع في هذه الروايةِ في أكثر النُّسخ: «مُعَلَّقٌ فِي الـمَسَاجِدِ» وفي بَعضِها «مُتَعَلِّقٌ» بالتاء وكِلاهُما صحِيحٌ، ومعناه: شدِيدُ الحُبّ لها والـمُلازَمةِ للجَماعة فيها وليس معناه دوامَ القُعود في الـمَسِجد».

وقال شيخنا رحمه الله: «مِن المؤمنِين الّذين يكونونَ تَحتَ ظِلّ العَرش أيضًا الرّجُل يَذهَبُ للمَسجِد ثُم يُفَكِّرُ للعَودةِ، قَلبُه مُعَلَّقٌ بالمساجِد».

[4])) قال المناويّ في التيسير (1/462): «(لَا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ)، أي: لا يُحِبُّه لغرَضٍ إلا لغرَض رِضا الله تعالى».

وقال شيخنا رحمه الله: «كذلكَ مِن الّذين يكُونونَ تحتَ ظِلِّ العَرشِ: مُسلِمانِ تَحابّا فِي اللهِ يجتَمِعانِ على ما يُرضِي اللهَ ويَفتَرقانِ على ما يُرضِي الله. الـمُتحابُّون في اللهِ لا بعضُهم بعضًا على المعصية إلّا على البِرّ والتَّقوى. الّذِين يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّ العَرش في الوقت الّذي يَكُون النّاسُ يُقاسُون حَرَّ الشَّمس الّتي تَدنُو مِن رُؤوسِهم حتَّى يَكُونَ بينَهُم وبينَها مِيلٌ، هؤلاءِ يَجعَلُهم اللهُ تعالى تحتَ ظِلِّ العَرشِ لا يُصِيبُهم أذَى شَمسِ ذلك اليومِ، هؤلاءِ صِفَتُهم أنّهُم يتعاوَنُون ولا يَغُشُّ بَعضُهم بعضًا، ويَتناصَحُون ويَتزاوَرُون ويَتباذَلُون أيْ يُهدِي بَعضُهم بعضًا، السِّواكُ إذَا أهداه الـمُسلِمُ لأَخِيهِ فهو عِندَ الله عَظِيمٌ، وما زاد قِيمةً فهو أعظَمُ عِندَ الله. ثُمّ هؤلاءِ الّذِينَ يُظِلُّهُم اللهُ في ظِلّ عَرشِه مِن صِفَتِهم انّهُم يَتحابُّون لأَجلِ اللهِ أي لأَجلِ التَّعاوُن على طاعةِ اللهِ ليسَ لِهَوًى وليسَ لِنَسَب، هذه صِفَتُهم، جعَلَنا اللهُ مِنهُم. وَوَردَ في بعضِ رِواياتِ هذا الحديثِ: كُلٌّ مِنُهما يقولُ للآخَر إنّي أُحِبُّكَ في اللهِ ثُمَّ يُحَقّقُونَ هذا ليسَ مجَرّدَ قَولٍ، لا يُداهِنُ هذا صاحبَه ولا ذاكَ يُداهِنُ هَذا؛ بل يتَعامَلونَ بالـمُصافاةِ، أي: على الصّفاء، لا يَتعامَلُون على الحِقدِ والغَشّ والخِيانةِ. مِن الخِيانةِ أن يستَشِيرَ الشّخصُ أخاه فيُشِير لهُ إلى ما ليسَ لهُ فيهِ خَيرٌ، هذِه خِيانةٌ، هؤلاء لا يَفعَلُونَ هذان هؤلاءِ مِن شَأنِهم أنْ يَتعامَلُوا على النّصِيحةِ. ثُمّ الّذي يَسلَمُ في مَواقِف القِيامَة يَقِيهِ اللهُ حرَّ الشّمسِ وغَيرَ ذلكَ مِن أهوالِ يَوم القيامةِ، هذا ما عليهِ عَذابٌ في الآخِرة.

وهناكَ حدِيثٌ قُدسِيٌّ ورَد في ذلك: «الـمُتَحابُّونَ بِجَلالِي لَهُم َمَنابِرُ مِن نُورٍ يَومَ القِيامَةِ» رواه أحمدُ والبخارِيُّ ومُسلِمٌ وغيرُهم. هذا قبلَ دخُولهمُ الجنّةَ يُجلِسهُمُ اللهُ تعالى تحتَ ظِلّ العَرش على مَنابِر مِن نُورٍ، فيُعجَبُ بهِمُ النّاس الأنبياءُ والشُّهَداءُ مع أنّ الأنبياءَ عليهِم الصّلاةُ والسّلامُ أَعلَى مِنهُم دَرجةً لكن حِينَ يَرَونَ هذا لِمَن هو دُونَهم يُعجَبُونَ ويَفرَحُونَ لهُم بذلك. أهلُ الضّلالِ يتَبادَلُونَ في الدُّنيا الـمُسايرةَ على الباطِل، هذه يُقالُ لها الـمُداهَنة، فالّذِين قال الرّسولُ r عنهُم إنّهم يكونونَ يومَ القيامة على مَنابِرَ مِن نُورٍ يَغبِطُهمُ الأنبياءُ والشُّهَداءُ ليسَت هذه خَصلَتُهم، في الدُّنيا لا يُداهِنُ بَعضُهم بَعضًا، بل هذا يحِبّ لهُ الخَيرَ ويُحِبُّ لهُ ما يحِبُّ لنَفسِه مِنَ الخَيرِ والثّاني كذلكَ يُعامِلُه بالـمِثل، هؤلاءِ المتَحابُّونَ في الله».

[5])) قال المناوي في فيض القدير (4/90): «(وَإِمامٌ مُقْسِطٌ فِي رَعِيَّتِهِ)، أي: مُتّبعٌ أمرَ اللهِ فيهِم بوَضعِ كلِّ شيءٍ في محَلِّه بغَير إفراط ولا تفرِيط، فلمّا عَدَل في عبادِ الله فآوَى المظلومَ إلى ظِلّ عَدلِه ءاواهُ الله في ظِلِّه (أي: ظِلّ عَرشِه)».

وقال شيخنا رحمه الله: «من المؤمنين الّذين يكونونَ تَحتَ ظِلّ العرش الإِمامُ العادلُ مثلُ صلاح الدّين الأيُّوبيّ رحمه الله».

[6])) قال شيخنا رحمه الله: «معنَى الحدِيث بِحَيثُ لا يرَى مَن علَى شِماله ما تُنفِقُ يَدُه اليُمنَى، معناه عندما يُناوِلُ الفقِيرَ الـمُحتاجَ يُخفِي إخفاءٌ شديدًا صدقةَ اليُمنَى بحَيثُ لا يَنتبِهُ مَن علَى شِماله ما أنفَقَه، فالَّذي يُخفِي الصّدَقةَ ونِيَّتُه صحِيحةٌ وهي مِن مالٍ حَلالٍ قَلّتْ أو كَثُرَتْ يُظِلُّه اللهُ في ظِلّ العَرشِ يوم القيامةِ فلا يَكُونُ في حَرِّ الشَّمسِ ذلكَ اليومَ».

[7])) قال المناوي في التيسير (2/53): «(ذَاتُ مَنْصِبٍ) بكَسرِ الصّادِ أصلٍ أو شرَفٍ أو حسَبٍ أو مالٍ (وَجَمَالٍ)، أي: مَزِيدِ حُسنٍ».

[8])) قال النووي في شرح مُسلِم (7/122): «(وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذاتُ مَنصِبٍ وَجَمالٍ فَقالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ): قال القاضِي يَحتمِل قولُه: «أَخَافُ اللهَ» بِاللِّسان ويَحتَمِل قولُه في قَلبِه ليَزجُرَ نَفْسَه. وخَصّ ذاتَ المنصِب والجَمال لكَثرةِ الرَّغبة فيها وعُسرِ حصُولِها، وهي جامِعةٌ للمَنصِب والجَمالِ لا سيِّما وهي داعِيةٌ إلى نَفسِها طالِبةٌ لذلك قَد أَغْنَتْ عن مَشاقّ التّوَصّل إلى مُراوَدةٍ ونَحوِها، فالصَّبرُ عنها لخَوفِ اللهِ تَعالى – وقَد دَعَتْ إلى نَفسِها مع جَمعِها المنصِبَ والجَمالَ – مِن أَكمَل المراتِب وأَعظَمِ الطّاعات، فرَتَّبَ اللهُ تَعالى علَيه أنْ يُظِلَّه في ظِلِّه (أي: ظِلِّ العَرشِ)، وذاتُ المنصِب هي ذاتُ الحسَبِ والنَّسَب الشَّرِيفِ. ومعنى «دعَتْهُ»، أي: دَعَتْه إلى الزِّنَى بها».

[9])) قال الملّا عليّ القاري (4/1347): «(فِي سَرِيَّةٍ)، أي: في جَيشٍ صَغِيرٍ».

[10])) أي: مَنَع ءاثارَهم لِئَلّا يَلحقَهُم العَدُوّ.