الإثنين أبريل 21, 2025

باب التَّرخِيصِ فِي زِيارةِ القُبُورِ

  • عن أبي بُرَيدةَ عن أَبِيه رضي الله عنه قال: قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «نَهَيْتُكُم عَنْ زِيارَةِ القُبُورِ فَزُورُوها([1])، وَنَهَيْتُكُم عَنْ لُحُومِ الأضَاحِي فَوْقَ ثَلَاثٍ فأَمْسِكُوا مَا بَدَأ لَكُم([2])، وَنَهِيْتُكُم عَنِ النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقاءٍ([3]) فَاشْرِبُوا فِي الأَوْعِيَةِ وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا». هذا حدِيثٌ صحِيحٌ أخرجَه مُسلِم.

[1])) قال الحافظ النوويّ في شرح مُسلِم (13/135): «هذا الحدِيثُ مـمّا صُرِّحَ فيه بالنّاسِخ والمنسُوخِ جمِيعًا. قال العُلَماء: يُعرَف نَسخُ الحدِيث تارةً بِنَصِّ كهذا وتارةً بإخبارِ الصّحابِيّ كـ«كان ءاخِرُ الأَمرَينِ مِن رَسولِ اللهِ r تَرْكَ الوُضُوءِ مِـمّا مَسَّتِ النّارُ» وتارةً بالتارِيخ إذَا تعَذَّر الجمعُ وتارةً بالإجماعِ كتَركِ قَتلِ شارِب الخَمرِ في المرّةِ الرابعةِ، والإجماعُ لا يُنسَخُ لكِن يدُلّ علَى وجُودِ ناسِخٍ».

وقال شيخنا رحمه الله: «(فَزُورُوهَا) بعض الفُقهاء قالوا: إنّه يَشملُ الرّجالَ والنّساءَ، عِندهُم يُستحَبُّ ذلك للاثَنين، الحنفيّةُ هُم قالوا ذلك. أمّا إشعالُ الشَّمعِ على قبرِ وليّ أو وليّةٍ فمُنكَر. الرَّسولُ r قال: «لَعَنَ اللهُ زَوّاراتِ القُبُورِ وَالـمُتَّخِذينَ عَلَيها الـمَساجِدَ والسُّرُجَ» رواه البيهقيُّ في «السُّنن الكُبرى». أمّا زوّاراتُ القُبور معناه النّاءُ اللّاتي يُكثِرْن من زيارة القبور هذا قَبل أن يُحلِّل اللهُ زيارة القبور، زيارةُ القُبور كانت حرامًا على الرّجال والنّساء ثم احلّها اللهُ تعالى، لـمّا كانت زيارةُ القُبور حرامًا على الرّجال والنّساء قال ذلك رسولُ الله r، ثـمَّ بعد ذلك جاءه الوحيُ بالإذنِ فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُم عن زِيارَةِ القُبُورِ أَلَا فَزُورُوها». رواه الحاكم. النّهيُ الذي كان سبَق انتسخَ، التّحريمُ الذي كان قبل أن تنزل الرُّخصةُ بالوحي مِن الله إلى الرَّسولِ r بالتحليلِ كان زيارةُ القُبور على الرّجال والنّساء حرامًا ثم رخَّص اللهُ تبارك وتعالى في زيارةِ القُبور، أمّا اتّخاذُ القُبورِ مساجِدَ وإشعالُ السُّروج، أي: الأضواءِ على القُبورِ بَقِيَ حرامًا، الآنَ لا يجوزُ أنْ نَبنِيَ مَسجِدًا على قبرٍ لتعظيمِ هذا القبر بالصَّلاة إليه، حرامٌ، يكُون شبيهًا بعبادَتِه لَو لَم يَقصِد الشّخصُ عبادةَ هذا القبر لكن شبيهٌ. كذلك إشعالُ الأضْواء واتّخاذُ السُّرُج علَى القُبورِ حَرامٍ. أمّا بناءُ القبر منهيٌّ عنه ممنوعٌ، قال بعض العلماء: إذَا كان يُخشَى إنْ لَـم يُبْن أنْ تستخرجَه السِّباع، تحفِرَ السّباعُ لتأكُل جسدَ الميّتِ يجوز، لِحِفْظِ جسَد الميتِ قالوا: يجوز، إن كان يُخشَى على جسد الميِّتِ أنْ تَحفِر عنه السّباعُ القبرَ لتأكُله قالوا: يجوز. كذلك إذا كان يُخشَى أن يَنْبُشهُ النّاس قبل أن يَمضِي عليه مُدَّةُ البَلى ليدفِنوا فيه الميّتَ الجديد، حِفْظًا لهذا المكانِ مِن أن يُنبَش قبل أن يَبلَى جسدُ هذا الميتِ قالوا يجوزُ، لهذَين الغرضَين يجوز البناءُ على القَبر وإلّا فلا يجوزُ».

[2])) في روايةٍ: «فَادَّخِرُوا»، وفي أُخرَى: «فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا». قال أبو العبّاس القُرطبي في الـمُفهِم (5/380): «والظّاهِرُ مِن هذِه الأوامِر هنا إطلاقُ ما كان ممنُوعًا بِدَلِيلِ اقتِرانِ الادِّخارِ معَ الأكلِ الصّدَقَةِ، ولا سبِيلَ إلى حَملِ الادِّخارِ علَى الوُجوبِ بِوَجهٍ، فلا يَجِبُ الأكلُ ولا الصّدَقةُ مِن هذا اللَّفظِ، وجمهورُ العُلَماء على أنّ الأكلَ مِن الأُضحِيّة ليسَ بواجِب».

[3])) أي: الانتِباذِ في أَوعِيةٍ مُعيَّنةٍ خَشْيةً مِن سُرعةِ تغَيُّر النَّبِيذِ إلى الخَمريّةِ فيَشرُبه الشّارِبُ ولا يَشعُر بتَغَيُّره، قال أبو العبّاس القُرطبي في الـمُفهِم (5/266).

وقال الـمُظهِريّ في المفاتيح (2/466): «(وَنَهيْتُكُم عَنِ النَّبِيذِ)، يعنِي: عن إِلقاءِ التَّمرِ والزّبِيبِ وغَيرهِما مِن الحَلوَى في الماءِ، وكانوا يُلقُون التَّمرَ وغيرَه في الماءِ لِيَصِيرِ الماءُ حُلوًا فيَشرَبُونه، فنهاهُم النّبِيُّ r أنْ يُلقُوا إلّا في السِّقاءِ، فإنّ السِّقاءَ جِلدٌ رَقِيقٌ لا يَجعَل الماءَ حارًّا فلا يَصِيرُ مُسكِرًا عن قَرِيبٍ بخِلافِ سائرِ الظُّروفِ، فإنّ سائِرَ الظُّروفِ تَجعلُ الماءَ حارًّا فيَصِيرُ النّبِيذُ مُسكِرًا عن قَرِيبٍ، فرَخَّصَ لَهُم النّبِيُّ r في شُربِ النَّبِيذ مِن كُلِّ ظَرفٍ ما لَـم يَصِرْ مُسكِرًا».