الْعَفُوُّ: هوَ
الذي يصفَحُ عنِ الذنوبِ ويتركُ مجازاةَ المسيءِ كَرَمًا وإحسانًا ﭧﭐﭨﭐ ﱡﲄ
ﲅ ﲆ ﲇﲈﱠ([1])،
فاللهُ
تعالى لا يُعَجِّلُ بالعقوبةِ للظالمِ في الأغلبِ، ويسئُ العبدُ فيمهِلُهُ اللهُ
تعالى فهذا الحجاجُ قتلَ أكثرَ مِنْ مائةِ ألفِ نفسٍ بغيرِ حقٍّ وكانَ مِنْ بينهم بعضٌ
من أصحاب رسولِ اللهِ ﷺ
وما أعجَلَهُ اللهُ بالعقوبةِ، ومِنْ آخرِ مَنْ قُتِلَ على يَدَيِ الحَجَّاجِ
سعيدُ بنُ جبيرٍ ، فقدْ رَوَى الحافظُ المزيُّ: قالَ: حَدَّثَنا حَوْشَبُ عنِ
الحَسَنِ قالَ: لما أُتِيَ الحَجَّاجُ بسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ قالَ: أنتَ الشَّقيُّ بنُ كُسَيْرٍ، قالَ: أنا
سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، قالَ: بل أنتَ الشَّقيُّ بنُ كُسَيْرٍ، قالَ: كانتْ أُمي
أعرَفَ باسمي منكَ، قالَ: وما تقولُ في محمَّدٍ؟ قال: تعني النَّبِيَّ ؟ قالَ: نعمْ.
قالَ: سَيِّدُ ولدِ آدمَ النَّبيُّ المصطَفى، خيرُ مَنْ بقيَ، وخيرُ مَنْ مَضَى،
قالَ: فما تقولُ في أبي بكرٍ؟ قالَ: الصِّديقُ خليفةُ رسولِ اللهِ، مَضَى حَميدًا،
وعاشَ سَعيدًا، مَضَى على مِنْهاجِ نبيِّهِ لم يغيِّرْ ولم يبدِّلْ، قالَ: فما
تقولُ في عُمَرَ؟ قالَ: عُمَرُ الفاروقُ خيرةُ اللهِ وخيرةُ رسولِه، مَضى حَميدًا
على مِنْهاجِ صاحِبِه، لم يغيِّرْ ولم يبدِّلْ، قالَ: فما تقولُ في عُثمانَ؟ قالَ:
المقتولُ ظُلمًا، المجَهِّزُ جيشَ العُسرةِ الحافرُ بئرَ رومةَ المشتري بـيتَهُ في
الجَنَّةِ صِهْرُ رسولِ اللهِ على ابنتَيهِ زوَّجَه النَّبِيُّ بوحيٍ مِنَ السَّماءِ
قالَ: فما تقولُ في عليٍّ قالَ: ابنُ عَمِّ رسولِ اللهِ وأوَّلُ مَنْ أسلَمَ،
وزَوْجُ فاطمةَ، وأبو الحَسَنِ والحُسَيْنِ، قالَ: فما تقولُ في معاويةَ؟ قالَ:
شَغلتْني نَفْسيْ عن تَصرِيفِ هذهِ الأمةِ، وتمييزِ أعمالِها، قالَ: فما تقولُ فيَّ
؟ قالَ: أنتَ أعلمُ بنفسِكَ، قالَ: بُثَّ بعلمِكَ، قالَ: إذًا يسؤْكَ ولا يسرُّكَ،
قالَ: بُثَّ بعلمِكَ، قالَ: أعفِني. قالَ: لا عفَا اللهُ عني إنْ أعفيتك، قالَ:
إنِّي لأعلمُ أَنَّكَ مخالِفٌ لكتابِ اللهِ، ترى مِنْ نفسِكَ أُمورًا تُريدُ بها
الهَيْبَةَ وهيَ تُقْحِمُكَ الهُلْكَ، وستردُّ غدًا فتعلم، قالَ: أمَا واللهِ
لأقتلنَّكَ قِتلةً، لم أقتُلْها أحدًا قبلَكَ، ولا أقتُلُها أحدًا بعدَكَ، قالَ:
إذًا تفسدُ عليَّ دُنيايَ وأفسدُ عليكَ آخرتَك، قالَ: يا غلامُ، السيفَ والنِّطعَ،
فلمَّا وَلَّى ضحِكَ، قالَ: أليسَ قدْ بَلغني أَنَّكَ لم تَضْحكْ؟ قالَ: قدْ كانَ
ذلكَ، قالَ: فمَا أَضْحَكَكَ عندَ القَتْلِ؟ قالَ: مِنْ جُرأتِكَ على اللهِ ومِنْ
حِلْمِ اللهِ عَنْكَ. قالَ: يا غُلامُ اقتُلْه فاستقبَلَ القِبلَةَ فقالَ: ﭐﱡﭐ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡﱠ([2]) فصرفَ وجهَهُ عنِ القِبلةِ فقالَ: ﭐﱡﭐ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲒﱠ([3]) قالَ: اضرِبْ بهِ الأرضَ قالَ: ﱡﭐ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶﱠ([4])
ثُمَّ
أمرَ بهِ فقُتلَ ([5]).اهـ
وقدْ كانَ الحلمُ خلقَ رسولِ اللهِ ﷺ قالتِ السيدةُ عائشةُ رضيَ اللهُ
عنها: ((لم يَكُنْ رسولُ اللهِ فاحشًا ولا مُتَفَحِّشًا([6]) ولا
صَخَّابًا([7]) في الأسواقِ
ولا يَجْزِي بالسَّـيِّئَةِ السَّـيِّئَةَ ولكنْ يَعْفُو ويَصْفَحُ))([8]) واللهُ تعالى يحبُّ أنْ يتصفَ العبدُ
المسلمُ بالعفوِ لقولِه تعالى: ﭐﱡ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗﱘ ﱙ ﱚ ﱛﱜ ﱠ([9]).
ورَوَى البيهقيُّ أنَّ عُقْبَةَ
بنَ عامرٍ سألَ رسولَ اللهِ ﷺ: مَا
النَّجَاةُ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟ فقالَ لهُ: ((تَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيْ
مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ))([10])،
هذهِ الخِصَالُ الثَّلاثُ العظيمةُ كانتْ مِنْ أوصافِ الرَّسُولِ ﷺ
وأخلاقهِ، فقولُه ﷺ: ((تَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ))
معناهُ إنَّ للرَّحِمِ حَقَّ الصِّلَة، والخَصْلَةُ الثَّانيةُ في قولِهِ: ((وَتُعْطِيْ
مَنْ حَرَمَكَ)) تعني أَنَّه ينبغي للمؤمنِ أنْ يُعْطيَ ممَّا رَزَقَهُ اللهُ،
يعطي مَنْ كانَ يعطيهِ ومَنْ كانَ يَبْخَلُ عليه، يعطي لوجهِ اللهِ وطلبًا لما
عندَ اللهِ، وما عندَ اللهِ خَيْرٌ وأبقَى، والخَصْلَةُ الثَّالثةُ في قولِهِ: ((وتَعْفُو
عَمَّنْ ظَلَمَكَ)) مفهومةٌ مِنْ قولِ اللهِ تعالَى: ﱡﭐ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱠ([11])، وهذا
الحديثُ معناهُ أنَّ مَنْ أرادَ النَّجاةَ مِنَ النَّارِ والفَوْزَ بالجَنَّةِ
فليعملْ بهذهِ الأُمُورِ، أيْ ليعاملِ النَّاسَ بما يُحِبُّ أنْ يُعاملَه النَّاسُ
بهِ أيْ بالصِّدْقِ والأَمانةِ والعَفْوِ والصَّفْحِ عندَ الإساءةِ، قالَ
القرطبيُّ: “هذهِ الآيةُ مِنْ ثلاثِ كلماتٍ، تضمَّنَتْ قواعدَ الشريعةِ في
المأموراتِ والمنهياتِ، فقولُه تعالى: ﱡﭐ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱠ دخلَ فيهِ
صلةُ القاطعينَ، والعفوُ عنِ المذنبينَ، والرفقُ بالمؤمنينَ، وغيرُ ذلكَ مِنْ
أخلاقِ المطيعينَ، ودخلَ في قولِهِ: ﱡﭐ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱠ صلةُ
الأرحامِ، وتَقوى اللهِ في الحلالِ والحرامِ، وغَضُّ الأبصارِ، والاستعدادُ لدارِ
القرارِ، وفي قولِهِ: ﱡﭐﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱠ الحَضُّ
على التعلُّقِ بالعلمِ، والإعراضُ عنْ أهلِ الظلمِ، والتنزهُ عنْ منازعةِ السفهاءِ،
ومساواةُ الجهلةِ الأغبياءِ، وغيرُ ذلكَ مِنَ الأخلاقِ الحميدةِ والأفعالِ الرشيدةِ،
وَنَظَمَهُ بعضُ الشعراءِ فقالَ: (الرجز)
مَكَـــارِمُ
الأَخْلَاقِ فِي ثَلَاثَةٍ مَـنْ
كَمُلَتْ فِيهِ فَذَلِكَ الفَتَى
إِعْطَاءُ
مَنْ يَحْرِمُهُ وَوَصْلُ مَنْ يَقْطَعُهُ
وَالعَفْوُ عَمَّنِ اعتَدَى
وقالَ
بعضُ السلفِ: أمرَ اللهُ نبيَّهُ بمكارمِ الأخلاقِ في هذهِ الآيةِ، وليسَ في
القرآنِ آيةٌ أجمعُ لمكارمِ الأخلاقِ مِنْ هذهِ الآيةِ([12])“.انتهى
كلامُ القرطبيِّ.
فَائِدَةٌ: رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ أَدْرَكْتُ
لَيْلَةَ الْقَدْرِ بِمَ أَدْعُو؟ قَالَ: ((قُولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ
تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي))([13]).
دُعَاءٌ:
اللَّهُمَّ يَا عَفُوُّ يَا غَفُوْرُ يَا كَرِيمُ عَاْفِنَا وَاعْفُ عَنَّا
وَيَسِّرِ الهُدَىْ إِلَيْنَا يَا اللهُ.