الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَطْوَلُ النَّاسِ عُمْرًا
مَوْلِدُ الْخَضِرِ وَنَسَبُهُ
رُوِىَ أَنَّهُ الْخَضِرُ بنُ ءَادَمَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ مِنْ صُلْبِهِ وَقِيلَ بَلْ هُوَ بَلْيَاءُ بنُ مَلْكَانَ بنِ فَالَغَ بنِ عَابَرَ بنِ شَالَخَ بنِ قَيْنَانَ بنِ أَرْفَخْشَذَ بنِ سَامٍ بنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ فَعَلَى هَذَا مَوْلِدُهُ قَبْلَ مَوْلِدِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأَنَّ الْخَضِرَ يَكُونُ ابْنَ عَمِّ جَدِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَإِنَّمَا سُمِىَّ الْخَضِرَ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى بُقْعَةٍ مِنَ الأَرْضِ بَيْضَاءَ لا نَبَاتَ فِيهَا فَإِذَا هِىَ تَهْتَزُّ وَتَنْقَلِبُ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ نَضِرَةً وَكَانَ يُكَنَّى بِأَبِى الْعَبَّاسِ.
السَّبَبُ فِى طُولِ عُمُرِهِ
رُوِىَ أَنَّ ءَادَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَمَعَ بَنِيهِ فَقَالَ «يَا بَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ سَيُنْزِلُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ عَذَابًا» وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ طُوفَانًا سَيَقَعُ بِالنَّاسِ وَأَوْصَاهُمْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِلُوا جَسَدَهُ مَعَهُمْ فِى السَّفِينَةِ وَأَنْ يَدْفِنُوهُ فِى غَارٍ عَيَّنَهُ لَهُمْ قُرْبَ بِلادِ الشَّامِ فَكَانَ جَسَدُهُ مَعَهُمْ وَتَنَاقَلَ الأَبْنَاءُ عَنِ الآبَاءِ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ وَقَبْلَ أَنْ يَحْدُثَ الطُّوفَانُ حَمَلَ جَسَدَ ءَادَمَ مَعَهُ فِى السَّفِينَةِ وَغَرِقَتِ الأَرْضُ زَمَانًا فَجَاءَ نُوحٌ حَتَّى نَزَلَ بِأَرْضِ بَابِلَ وَأَوْصَى بَنِيهِ الثَّلاثَةَ وَهُمْ سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ أَنْ يَذْهَبُوا بِجَسَدِ ءَادَمَ إِلَى الْغَارِ الَّذِى أَمَرَهُمْ بِهِ أَنْ يَدْفِنُوهُ بِهِ فَقَالُوا «الأَرْضُ وَحْشِيَّةٌ لا أَنِيسَ بِهَا وَلا نَهْتَدِى لِطَرِيقٍ وَلَكِنْ لِنَنْتَظِرْ حَتَّى يَعْظُمَ النَّاسُ وَيَكْثُرُوا» فَقَالَ لَهُمْ نُوحٌ «إِنَّ ءَادَمَ قَدْ دَعَا اللَّهَ أَنْ يُطِيلَ عُمُرَ الَّذِى يَدْفِنُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَلَمْ يَزَلْ جَسَدُ ءَادَمَ مِنْ جِيلٍ إِلَى جِيلٍ حَتَّى كَانَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ هُوَ الَّذِى تَوَلَّى دَفْنَهُ فَأَنْجَزَ اللَّهُ مَا وَعَدَهُ فَهُوَ يَحْيَا مَا شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَحْيَا.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ ءَاخَرُ فِى سَبَبِ طُولِ عُمُرِهِ وَهُوَ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ الأَكْبَرَ وَكَانَ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ قَدْ مَلَكَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَانَ لَهُ صَدِيقٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ يُقَالُ لَهُ رَفَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَزُورُهُ بَيْنِ الْحِينِ وَالآخَرِ فَبَيْنَمَا هُمَا يَتَحَادَثَانِ إِذْ قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ «يَا رَفَائِيلُ إِنِّى أُحِبُّ أَنْ أُعَمِّرَ حَتَّى أَبْلُغَ فِى طَاعَةِ رَبِّى حَقَّ طَاعَتِهِ» قَالَ «وَتُحِبُّ ذَلِكَ» أَجَابَهُ «نَعَمْ» فَقَالَ رَفَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ «فَإِنَّ لِلَّهِ عَيْنًا مِنَ الْمَاءِ تُسَمَّى عَيْنَ الْحَيَاةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا شَرْبَةً طَالَ عُمُرُهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ وَلا يَمُوتُ حَتَّى يُمِيتَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ «فَهَلْ تَعْلَمُ مَوْضِعَهَا» قَالَ «لا غَيْرَ أَنَّنَا نَتَحَدَّثُ فِى السَّمَاءِ أَنَّ لِلَّهِ ظُلْمَةً فِى الأَرْضِ لَمْ يَطَأْهَا إِنْسٌ وَلا جَانٌّ فَنَحْنُ نَظُنُّ أَنَّ تِلْكَ الْعَيْنَ فِى تِلْكَ الظُّلْمَةِ».
نُبُوَّةُ الْخَضِرِ وَمُقَابَلَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لَهُ
إِنَّ الْخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلامُ نَبِىٌّ كَرِيمٌ مُعَمِّرٌ أَىْ عُمُرُهُ طَوِيلٌ كَانَ يَعِيشُ بَيْنَ الْبَشَرِ ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْمَاءَ كَأَنَّهُ أَرْضٌ فَهُوَ يَعِيشُ إِلَى الآنَ فِى الْبَحْرِ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَحْدَهُ مُنْفَرِدًا وَهُوَ مَحْجُوبٌ عَنِ الأَبْصَارِ وَقَدْ يَأْتِى إِلَى مَكَانٍ وَلا يَرَاهُ إِلَّا شَخْصٌ وَاحِدٌ مِنْ بَيْنِ الْحَاضِرِينَ كَمَا سَيَظْهَرُ مَعَنَا بَعْدَ قَلِيلٍ فِى قِصَّتِهِ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَمَا كَانَا عَلَى ظَهْرِ السَّفِينَةِ فَاللَّهُ حَجَبَ أَعْيُنَ النَّاسِ عَنْهُ وَلا يَرَاهُ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ كَأَكَابِرِ الأَوْلِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
وَلْنَسْتَمِعْ مَعًا إِلَى سَبَبِ الْتِقَائِهِ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ. لَمَّا نَجَّى اللَّهُ بَنِى إِسْرَائِيلَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُمْ قَامَ سَيِّدُنَا مُوسَى خَطِيبًا فِى الْمُسْلِمِينَ يَعِظُهُمْ وَيُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَتْرُكْ نِعْمَةً أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَا إِلَّا وَعَرَّفَهُمْ إِيَّاهَا. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ «يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ فِى الأَرْضِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ» فَقَالَ مُوسَى «لا» فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَوْحَى إِلَيْهِ قَائِلًا «وَمَا يُدْرِيكَ أَيْنَ أَضَعُ عِلْمِى بَلَى إِنَّ لِى عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ رَجُلًا وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ هُوَ عَبْدُنَا الْخَضِرُ» أَىْ يُوجَدُ مَنْ هُوَ مُطَّلِعٌ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْعِلْمِ لَمْ تَتَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَنْتَ. وَكَانَ عِلْمُ الْخَضِرِ عِلْمَ مَعْرِفَةِ بَوَاطِنِ أُمُورٍ قَدْ أُوحِيَتْ إِلَيْهِ وَكَانَ عِلْمُ مُوسَى عِلْمَ الأَحْكَامِ وَالْفُتْيَا بِظَاهِرِ أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ فَيَكُونُ الْخَضِرُ أَعْلَمَ مِنْ مُوسَى بِأَحْكَامِ وَقَائِعَ مُفَصَّلَةٍ مُعَيَّنَةٍ لا مُطْلَقًا فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى هَذَا اشْتَاقَتْ نَفْسُهُ الْفَاضِلَةُ وَهِمَّتُهُ الْعَالِيَةُ لِتَحْصِيلِ عِلْمِ مَا لَمْ يَعْلَمْ وَلِلِقَاءِ مَنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ إِنَّهُ أَعْلَمُ مِنْكَ وَفِى هَذَا إِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَالِمَ يَرْحَلُ فِى طَلَبِ الِازْدِيَادِ مِنَ الْعِلْمِ وَاغْتِنَامِ لِقَاءِ الْفُضَلاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَإِنْ بَعُدَتْ أَقْطَارُهُمْ وَذَلِكَ دَأْبُ الصَّالِحِ فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ إِيَّاهُ فَأَوْحَى إِلَيْهِ «أَنِ ائْتِ الْبَحْرَ فَإِنَّكَ تَجِدُ عَلَى شَاطِئِهِ حُوتًا أَىْ سَمَكَةً فَخُذْهُ فَادْفَعْهُ إِلَى فَتَاكَ ثُمَّ الْزَمْ شَاطِئَ الْبَحْرِ فَإِذَا نَسِيتَ الْحُوتَ وَهَلَكَ مِنْكَ فَثَمَّ تَجِدُ الْعَبْدَ الصَّالِحَ الَّذِى تَطْلُبُ عِنْدَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ» فَأَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى حَالَ الْخَضِرِ وَلَمْ يُعْلِمْهُ مَوْضِعَهُ بِعَيْنِهِ مِمَّا زَادَ تَشَوُّقَ مُوسَى إِلَيْهِ فَقَالَ «لا أَزَالُ أَمْضِى إِلَى مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أُمْضِى زَمَنًا طَوِيلًا حَتَّى أَجِدَ هَذَا الْعَالِمَ» وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ الدَّاعِى إِلَى الْحَقِّ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ الْعَالِيَةِ بِأَنَّهُ هَيَّأَ نَفْسَهُ لِتَحَمُّلِ التَّعَبِ الشَّدِيدِ وَالْعَنَاءِ الْعَظِيمِ فِى السَّفَرِ لِأَجْلِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ لَوْ سَافَرَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ لِطَلَبِ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ لَحُقَّ لَهُ ذَلِكَ.
فَانْطَلَقَ مُوسَى وَمَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بنُ نُونٍ عَلَيْهِمَا السَّلامُ الَّذِى كَانَ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ وَيُرَافِقُهُ وَيَخْدِمُهُ وَأَخَذَا سَمَكَةً مُمَلَّحَةً مُهَيَّأَةً لِلأَكْلِ وَخُبْزًا زَادًا لَهُمَا وَمَضَيَا ثُمَّ وَصَلا إِلَى مُلْتَقَى الْبَحْرَيْنِ وَيُقَالُ إِنَّهُمَا بَحْرُ فَارِسَ وَالرُّومِ وَجَلَسَا عِنْدَ ظِلِّ صَخْرَةٍ فِى مَكَانٍ قُرْبَ ضِفَّةِ الْبَحْرِ وَوَضَعَا رَأْسَيْهِمَا فَنَامَا وَكَانَ فِى أَصْلِ الصَّخْرَةِ عَيْنُ مَاءٍ يُقَالُ لَهَا عَيْنُ الْحَيَاةِ تَنْزِلُ مِثْلَ شَلَّالٍ صَغِيرٍ لا يُصِيبُ مِنْ مَائِهَا شَىْءٌ إِلَّا حَيِىَ بِإِذْنِ اللَّهِ فَأَصَابَ السَّمَكَةَ الْمُمَلَّحَةَ مِنْ مَاءِ تِلْكَ الْعَيْنِ فَتَحَرَّكَتْ وَانْسَلَّتْ مِنَ الْوِعَاءِ الَّذِى كَانَتْ فِيهِ وَدَخَلَتِ الْبَحْرَ وَالْغَرِيبُ أَنَّ هَذِهِ السَّمَكَةَ كَانَ قَدْ أُكِلَ نِصْفُهَا وَبَقِىَ النِّصْفُ الآخَرُ فَكَانَ هَذَا الأَمْرُ مُعْجِزَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ وَيُذْكَرُ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ رَأَوْا بَعْدَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ نَوْعًا جَدِيدًا مِنَ السَّمَكِ كَانَ مِنْ نَسْلِ تِلْكَ السَّمَكَةِ فَأَحَدُ جَانِبَيْهَا شَوْكٌ وَعَظْمٌ وَجِلْدٌ رَقِيقٌ عَلَى أَحْشَائِهَا وَالْجَانِبُ الآخَرُ صَحِيحٌ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَمَّا حَيِيَتْ بَعْدَ أَنْ أُكِلَ مِنْهَا اسْتَمَرَّتْ فِيهَا تِلْكَ الصِّفَةُ ثُمَّ فِى نَسْلِهَا. وَاسْتَيْقَظَ الْفَتَى يُوشَعُ فَرَأَى السَّمَكَةَ قَدْ خَرَجَتْ مِنَ الْوِعَاءِ فَقَالَ «لَنْ أُوقِظَ رَسُولَ اللَّهِ مُوسَى الآنَ وَلَكِنْ سَأُخْبِرُهُ عِنْدَمَا يَسْتَيْقِظُ» وَعِنْدَمَا اسْتَيْقَظَ مُوسَى نَسِىَ فَتَاهُ أَنْ يُخْبِرَهُ عَنْ خُرُوجِ السَّمَكَةِ وَنَسِىَ مُوسَى سُؤَالَ الْفَتَى إِنْ رَأَى شَيْئًا غَرِيبًا فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا وَلَمْ يَشْعُرَا بِجُوعٍ وَلا تَعَبٍ حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ وَقَدْ مَشَيَا مَسَافَةً طَوِيلَةً قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ «ءَاتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ تَعِبْنَا مِنَ هَذَا السَّفَرِ». وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى التَّعَبَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِى أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ثُمَّ أَخْبَرَ يُوشَعُ سَيِّدَنَا مُوسَى بِالْقِصَّةِ فَقَالَ وَقَدْ شَعَرَ بِاقْتِرَابِ لِقَائِهِ بِالْخَضِرِ «ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِيهِ وَنَطْلُبُهُ» ثُمَّ عَادَا فِى نَفْسِ الطَّرِيقِ الَّذِى أَتَيَا مِنْهُ ثُمَّ رَأَيَا أَثَرَ جَرْىِ السَّمَكَةِ فِى الْبَحْرِ إِذْ ظَهَرَ مِثْلُ أُخْدُودٍ صَخْرِىٍّ فَسَلَكَاهُ حَتَّى رَجَعَا إِلَى الصَّخْرَةِ الَّتِى كَانَا عِنْدَهَا وَهُنَاكَ وَجَدَ مُوسَى سَيِّدَنَا الْخَضِرَ عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ وَهُوَ مُسَجًّى بِثَوْبٍ أَخْضَرَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَقَالَ مُوسَى «السَّلامُ عَلَيْكُمْ» فَكَشَفَ الْخَضِرُ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ «وَعَلَيْكُمُ السَّلامُ وَهَلْ بِأَرْضِى مِنْ سَلامٍ» لِأَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الأَرْضِ لَمْ يَكُونُوا فِى ذَاكَ الْوَقْتِ مُسْلِمِينَ. ثُمَّ سَأَلَ الْخَضِرُ مُوسَى «مَنْ أَنْتَ» قَالَ «أَنَا مُوسَى» فَقَالَ «مُوسَى بَنِى إِسْرَائِيلَ» قَالَ «نَعَمْ وَمَا أَدْرَاكَ أَنِّى مُوسَى» قَالَ «أَدْرَانِى بِكَ الَّذِى أَدْرَاكَ بِى أَلَمْ يَكُنْ لَكَ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ مَا يُشْغِلُكَ عَنِ السَّفَرِ إِلَى هُنَا» قَالَ «بَلَى وَلَكِنِّى أُمِرْتُ أَنْ ءَاتِيَكَ لِتُعَلِّمَنِى مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا» فَقَالَ الْخَضِرُ «أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْكَ وَأَنَّ الْوَحْىَ يَأْتِيكَ، يَا مُوسَى إِنِّى عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لا تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لا أَعْلَمُهُ أَنَا». فَتَلَطَّفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ فِى الْقَوْلِ وَتَجَمَّلَ بِأَحْسَنِ مَا وَهَبَهُ اللَّهُ مِنْ أَدَبِ الْحَدِيثِ وَفَضْلِ التَّوَاضُعِ وَقَالَ «هَلْ تَأْذَنُ أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَنْ تَفِيضَ عَلَىَّ بِعِلْمِكَ عَلَى أَنْ أَتْبَعَكَ وَأَلْتَزِمَ أَمْرَكَ وَنَهْيَكَ» وَكَانَ الْخَضِرُ قَدْ أُلْهِمَ أَنَّ مُوسَى لا يَصْبِرُ عَلَى السُّكُوتِ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَقَالَ لِمُوسَى «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا، وَلَوْ أَنَّكَ صَحِبْتَنِى سَتَرَى ظَوَاهِرَ عَجِيبَةً وَأُمُورًا غَرِيبَةً» فَقَالَ مُوسَى وَكَانَ حَرِيصًا عَلَى الْعِلْمِ تَوَّاقًا إِلَى الْمَعْرِفَةِ «سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا».
فَقَالَ الْخَضِرُ «إِنْ صَحِبْتَنِى ءَاخُذُ عَلَيْكَ عَهْدًا وَشَرْطًا أَنْ لا تَسْأَلَنِى عَنْ شَىْءٍ حَتَّى يَنْقَضِىَ الشَّرْطُ وَتَنْتَهِىَ الرِّحْلَةُ وَإِنِّى بَعْدَهَا سَأُبَيِّنُ لَكَ مَا قَدْ تَتَسَاءَلُ عَنْهُ وَأَشْفِى مَا بِصَدْرِكَ».
مُوسَى وَالْخَضِرُ فِى السَّفِينَةِ
أَعَادَ مُوسَى فَتَاهُ إِلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ وَانْطَلَقَ مَعَ الْخَضِرِ يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ حَتَّى لَمَحَا سَفِينَةً فَطَلَبَا مِنْ أَهْلِهَا حَمْلَهُمَا إِلَى حَيْثُ يَذْهَبُونَ وَقَالَ لَهُمُ الْخَضِرُ «سَأُعْطِى عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا ضِعْفَ مَا تَأْخُذُونَ مِنْ غَيْرِنَا» فَقَالَ أَحَدُ الْبَحَّارَةِ «إِنَّا نَرَى رِجَالًا فِى مَكَانٍ مَخُوفٍ فَنَخْشَ أَنْ يَكُونُوا لُصُوصًا» فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ «بَلْ سَنَحْمِلُهُمَا فَإِنَّنَا نَرَى عَلَى وُجُوهِهِمَا النُّورَ» فَحَمَلاهُمَا بِدُونِ أُجْرَةٍ.
وَبَيْنَمَا هُمَا فِى السَّفِينَةِ فُوجِئَ مُوسَى بِأَنَّ الْخَضِرَ أَخَذَ لَوْحَيْنِ مِنْ خَشَبِ السَّفِينَةِ فَخَلَعَهُمَا وَلَمْ يَكُنْ يَرَى الْخَضِرَ عِنْدَئِذٍ إِلَّا مُوسَى وَلَوْ رَءَاهُ الْبَحَّارَةُ لَمَنَعُوهُ إِذْ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْخَضِرِ أَنَّهُ لا يَرَاهُ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَأْتِى إِلَى النَّبِىِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا يَرَاهُ إِلَّا هُوَ فَأَنْكَرَ مُوسَى وَهُوَ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ الَّذِى أُرْسِلَ لِهِدَايَةِ النَّاسِ وَرَدِّ الظُّلْمِ عَنْهُمْ أَنْ يُقَابَلَ صَنِيعُ الْبَحَّارَةِ بِالإِسَاءَةِ وَجَمِيلُهُمْ بِالنُّكْرَانِ وَخَشِىَ أَنْ يُصِيبَهُمْ غَرَقٌ أَوْ هَلاكٌ فَنَظَرَ إِلَى الْخَضِرِ مُعَاتِبًا وَقَالَ «أَرَدْتَ إِهْلاكَهُمْ وَقَدْ أَصْعَدُونَا بِدُونِ مُقَابِلٍ وَأَحْسَنُوا لِقَاءَنَا فَتَخْرِقُ سَفِينَتَهُمْ وَتُحَاوِلُ إِغْرَاقَهُمْ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا عَظِيمًا» فَالْتَفَتَ الْخَضِرُ إِلَيْهِ وَمَا زَادَ أَنْ ذَكَّرَهُ بِالشَّرْطِ وَالْعَهْدِ قَائِلًا «أَلَمْ أَقُلْ لَكَ» فَتَذَّكَرَ مُوسَى وَقَالَ «لا تُؤَاخِذْنِى» وَتَنَحَّى جَانِبًا.
وَبَيْنَمَا هُمَا عَلَى السَّفِينَةِ إِذْ جَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِهَا فَغَمَسَ مِنْقَارَهُ فِى الْبَحْرِ فَقَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى «يَا مُوسَى مَا عِلْمِى وَعِلْمُكَ فِى جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا نَقَرَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنَ الْبَحْرِ» مَعْنَاهُ لا نَعْلَمُ مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ إِلَّا الْقَدْرَ الْقَلِيلَ الَّذِى أَعْطَانَا وَالْقَدْرُ الَّذِى أَعْطَانَا بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَمْ يُعْطِنَا كَمَا أَصَابَ مِنْقَارُ الْعُصْفُورِ مِنَ الْمَاءِ حِينَ غَمَسَهُ فِى الْبَحْرِ. وَلَمَّا مَرَّتِ السَّفِينَةُ بَعْدَ حِينٍ بِدُونِ أَنْ يَغْرَقَ أَحَدٌ مَرَّرَ الْخَضِرُ يَدَهُ عَلَى مَكَانِ اللَّوْحَيْنِ الْمَكْسُورَيْنِ فَعَادَا كَمَا كَانَا بِإِذْنِ اللَّهِ وَاسْتَبْشَرَ بِهِ أَهْلُ السَّفِينَةِ ثُمَّ وَصَلَ إِلَى مُرَادِهِ فَنَزَلَ هُوَ وَمُوسَى.
الْخَضِرُ وَالْغُلامُ
وَلَمَّا غَادَرَا السَّفِينَةَ تَابَعَا الْمَسِيرَ فَوَجَدَا غِلْمَانًا وَفِتْيَانًا يَلْعَبُونَ فَأَخَذَ الْخَضِرُ وَاحِدًا مِنْهُمْ كَانَ ضَالًّا كَافِرًا لِصًّا قَاطِعًا لِلطَّرِيقِ وَكَانَ يُفْسِدُ وَيُقْسِمُ لِأَبَوَيْهِ أَنَّهُ مَا فَعَلَ فَيُقْسِمَانِ عَلَى قَسَمِهِ وَيَحْمِيَانِهِ مِنَ الْعَسَاكِرِ وَالنَّاسِ وَلَمَّا أَخَذَهُ الْخَضِرُ إِلَى بَعِيدٍ أَضْجَعَهُ وَقَتَلَهُ فَدُهِشَ مُوسَى وَكَبُرَ عِنْدَهُ ذَلِكَ الأَمْرُ فَقَالَ لِلْخَضِرِ «أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً» فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الْخَضِرُ وَقَالَ لَهُ «أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا». وَقِيلَ إِنَّهُ اقْتَلَعَ كَتِفَ الْفَتَى الأَيْسَرَ وَقَشَرَ اللَّحْمَ عَنْهُ وَإِذَا فِى عَظْمِ كَتِفِهِ مَكْتُوبٌ «كَافِرٌ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أَبَدًا» فَاسْتَحْيَا مُوسَى عِنْدَ ذَلِكَ وَأَدْرَكَ أَنَّهُ قَدْ أَثْقَلَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الصَّالِحِ فَقَالَ «إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَىْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِى».
الْخَضِرُ وَالْيَتِيمَانِ
أَكْمَلَ مُوسَى وَالْخَضِرُ عَلَيْهِمَا السَّلامُ طَرِيقَهُمَا وَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا قَرْيَةً وَكَانَ أَهْلُهَا بُخَلاءَ لِئَامًا فَطَافَا فِى الْمَجَالِسِ وَطَلَبَا طَعَامًا فَلَمْ يُقَدِّمْ أَهْلُ الْقَرْيَةِ لَهُمَا شَيْئًا وَرَدُّوهُمَا رَدًّا غَيْرَ جَمِيلٍ فَخَرَجَا جَائِعَيْنِ. وَقَبْلَ أَنْ يُجَاوِزَا الْقَرْيَةَ وَجَدَا جِدَارًا يَتَدَاعَى لِلسُّقُوطِ وَيَكَادُ يَنْهَارُ فَرَفَعَهُ الْخَضِرُ بِمُعْجِزَةٍ لَهُ بِيَدِهِ وَمَسَحَهُ فَاسْتَقَامَ وَاقِفًا وَكَانَ سَمْكُ هَذَا الْجِدَارِ ثَلاثِينَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَطُولُهُ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ خَمْسَمِائَةِ ذِرَاعٍ وَعَرْضُهُ خَمْسِينَ ذِرَاعًا فَاسْتَغْرَبَ مُوسَى وَقَالَ «عَجَبًا أَتُجَازِى هَؤُلاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَسَاءُوا اللِّقَاءَ بِهَذَا الإِحْسَانِ لَوْ شِئْتَ لَأَخَذْتَ عَلَى فِعْلِكَ هَذَا أَجْرًا مِنْهُمْ نَسُدُّ بِهِ حَاجَاتِنَا» فَقَالَ الْخَضِرُ وَقَدْ تَيَقَّنَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لَنْ يَسْتَطِيعَ بَعْدَ الآنَ صَبْرًا «هَذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ» فَأَخَذَ مُوسَى بِثِيَابِهِ وَقَالَ «لا أُفَارِقُكَ حَتَّى تُخْبِرَنِى بِمَ أَبَاحَ لَكَ فِعْلَ مَا فَعَلْتَ» فَلَمَّا الْتَمَسَ مُوسَى ذَلِكَ مِنْهُ أَخَذَ فِى الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ وَقَالَ «سَأُبَيِّنُ لَكَ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَيُصِيبُونَ مِنْهَا رِزْقًا يُعِينُهُمْ عَلَى الْكَسْبِ وَعَدَدُهُمْ عَشَرَةُ إِخْوَةٍ وَرِثُوهَا عَنْ أَبِيهِمْ بِكُلِّ وَاحِدٍ عِلَّةٌ لَيْسَتْ فِى الآخَرِ خَمْسَةٌ مِنْهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الْعَمَلَ وَخَمْسَةٌ يَعْمَلُونَ فَأَمَّا الْعُمَّالُ مِنْهُمْ فَأَحَدُهُمْ كَانَ مَجْذُومًا وَالْجُذَامُ مَرَضٌ جِلْدِيٌّ خَطِيرٌ وَالثَّانِى أَعْوَرَ وَالثَّالِثُ أَعْرَجَ وَالرَّابِعُ ءَادَرَ أَىْ مُصَابًا بِفَتْقٍ شَدِيدٍ وَالْخَامِسُ مَحْمُومًا لا تَنْقَطِعُ عَنْهُ الْحُمَّى الدَّهْرَ كُلَّهُ وَهُوَ أَصْغَرُهُمْ، وَالْخَمْسَةُ الَّذِينَ لا يُطِيقُونَ الْعَمَلَ أَعْمَى وَأَصَمُّ لا يَسْمَعُ وَأَخْرَسُ وَمُقْعَدٌ وَمَجْنُونٌ. وَكَانَ عَلَيْهِمْ مَلِكٌ فَاجِرٌ اسْمُهُ هُدَدُ بنُ بُدَدَ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَحِيحَةٍ تَمُرُّ فِى بَحْرِهِ غَصْبًا وَيَتْرُكُ الَّتِى فِيهَا خَلَلٌ وَأَعْطَالٌ ثُمَّ أَكْمَلَ الْخَضِرُ كَلامَهُ قَائِلًا وَلَمْ يَكُنِ الإِخْوَةُ عَلَى عِلْمٍ بِمَا يُرِيدُ الْمَلِكُ فِعْلَهُ فَأَظْهَرْتُ فِى السَّفِينَةِ عَيْبًا حَتَّى إِذَا جَاءَ خُدَّامُ الْمَلِكِ تَرَكُوهَا لِلْعَيْبِ الَّذِى فِيهَا وَهَذَا الَّذِى صَارَ إِذْ لَمْ يَأْخُذْهَا الْمَلِكُ ثُمَّ أَصْلَحْتُهَا لَهُمْ كَمَا رَأَيْتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَانْتَفَعُوا بِهَا وَبَقِيَتْ لَهُمْ. وَأَمَّا الْغُلامُ الْمَقْتُولُ فَاسْمُهُ حَيْسُون وَكَانَ كَافِرًا وَأَبَوَاهُ مُؤْمِنَانِ وَكَانَا يَعْطِفَانِ عَلَيْهِ فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْمِلَهُمَا حُبُّهُ عَلَى أَنْ يُتَابِعَاهُ عَلَى كُفْرِهِ فَأَمَرَنِى اللَّهُ أَنْ أَقْتُلَهُ بِاعْتِبَارِ مَا سَيَئُولُ أَمْرُهُ إِلَيْهِ إِذْ لَوْ عَاشَ لَأَتْعَبَ وَالِدَيْهِ بِكُفْرِهِ وَلِلَّهِ أَنْ يَحْكُمَ فِى خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ وَيَتَصَرَّفَ فِى مِلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ لا يَظْلِمُ أَحَدًا». وَكَانَتْ أُمُّ الْغُلامِ يَوْمَ قُتِلَ حُبْلَى فَوَلَدَتْ بِنْتًا كَانَتْ أَرْحَمَ مِنَ الَّذِى قَتَلَهُ الْخَضِرُ وَقِيلَ إِنَّهُ لَمَّا كَبِرَتْ هَذِهِ الْبِنْتُ أَدْرَكَتْ سَيِّدَنَا يُونُسَ بنَ مَتَّى فَآمَنَتْ بِهِ وَتَزَوَّجَهَا فَأَنْجَبَتْ عِدَّةَ أَنْبِيَاءَ فَهَدَى اللَّهُ بِهِمْ أُمَمًا كَثِيرَةً وَكَانَتِ الْعِبْرَةُ فِى قِصَّةِ هَذَا الْغُلامِ أَنَّهُ فَرِحَ بِهِ أَبَوَاهُ حِينَ وُلِدَ وَحَزِنَا عَلَيْهِ حِينَ قُتِلَ وَلَوْ بَقِىَ كَانَ فِيهِ هَلاكُهُمَا فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا الأَمْرُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ حُكِىَ أَنَّ أَحَدَهُمَا اسْمُهُ أَصْرَمُ وَالآخَرَ صَرِيم وَاسْمُ أَبِيهِمَا كَاشَح وَأُمِّهِمَا دَهْنَا وَكَانَ تَحْتَ الْجِدَارِ كَنْزٌ لَهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ لَوْحٍ ذَهَبِىٍّ وَمَالٍ كَثِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ تَرَكَهُ لَهُمَا وَالِدُهُمَا الصَّالِحُ الَّذِى كَانَ يُؤَدِّى الأَمَانَاتِ وَالْوَدَائِعَ إِلَى أَهْلِهَا وَقَدْ حُفِظَا بِصَلاحِ أَبِيهِمَا. وَفِى الْحَدِيثِ النَّبَوِىِّ «إِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ الرَّجُلَ الصَّالِحَ فِى ذُرِّيَّتِهِ». وَلَمَّا كَانَ الْجِدَارُ مُشْرِفًا عَلَى السُّقُوطِ وَلَوْ سَقَطَ لَضَاعَ ذَلِكَ الْكَنْزُ أَرَادَ اللَّهُ إِبْقَاءَهُ عَلَى الْيَتِيمَيْنِ رِعَايَةً لِحَقِّهِمَا وَحَقِّ صَلاحِ وَالِدِهِمَا فَأَمَرَ اللَّهُ الْخَضِرَ بِإِقَامَةِ ذَلِكَ الْجِدَارِ لِيَحْفَظَ الْكَنْزَ الَّذِى سَيَكُونُ مِنْ نَصِيبِ الْيَتِيمَيْنِ عِنْدَمَا يَكْبَرَانِ وَكَانَ الْيَتِيمَانِ جَاهِلَيْنِ بِأَنَّ لَهُمَا كَنْزًا إِلَّا أَنَّ الْوَصِىَّ عَلَيْهِمَا كَانَ عَالِمًا بِهِ. ثُمَّ أَنَّ الْوَصِىَّ غَابَ وَأَشْرَفَ ذَلِكَ الْجِدَارُ فِى غَيْبَتِهِ عَلَى السُّقُوطِ. ثُمَّ قَالَ الْخَضِرُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لِمُوسَى الْقَضَايَا الثَّلاثَ «وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى» أَىْ مَا فَعَلْتُهُ بِاجْتِهَادٍ مِنِّى وَرَأْىٍ إِنَّمَا فَعَلْتُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَبِىٌّ أُوحِىَ إِلَيْهِ.
بَعْضُ مَنْ رَأَى الْخَضِرَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رُوِىَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا تُوُفِّىَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُجِّىَ بِثَوْبٍ هَتَفَ هَاتِفٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَلا يَرَوْنَ شَخْصَهُ «السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ إِنَّ فِى اللَّهِ خَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ وَعِوَضًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ وَعَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ فَبِاللَّهِ ثِقُوا وَإِيَّاهُ فَارْجُوا فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ» فَكَانَ الصَّحَابَةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَرُوِىَ عَنْ عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَقِىَ الْخَضِرَ وَعَلَّمَهُ هَذَا الدُّعَاءَ وَذَكَرَ أَنَّ فِيهِ ثَوَابًا عَظِيمًا وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً لِمَنْ قَالَهُ فِى إِثْرِ كُلِّ صَلاةٍ وَهُوَ «يَا مَنْ لا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ وَيَا مَنْ لا تُغَلِّطُهُ الْمَسَائِلُ وَيَا مَنْ لا يَتَبَرَّمُ مِنْ إِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ أَذِقْنِى بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ» وَيُرْوَى هَذَا كَذَلِكَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذُكِرَ أَنَّ الْخَضِرَ وَإِلْيَاسَ لا يَزَالانِ حَيَّيْنِ فِى الأَرْضِ مَا دَامَ الْقُرْءَانُ فِى الأَرْضِ فَإِذَا رُفِعَ مَاتَا وَذُكِرَ أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِى كُلِّ سَنَةٍ وَأَنَّهُمَا يَقُولانِ عِنْدَ افْتِرَاقِهِمَا «بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ لا يَسُوقُ الْخَيْرَ إِلَّا اللَّهُ بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ لا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلَّا اللَّهُ بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ مَا كَانَ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «مَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يَمْسِى ثَلاثَ مَرَّاتٍ ءَامَنَهُ اللَّهُ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرَقِ وَالسَّرَقِ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ».
وَرُوِىَ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا يَتَبَايَعَانِ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَأَكْثَرَا الْحَلِفَ بِاللَّهِ فَجَاءَهُمَا رَجُلٌ وَنَهَاهُمَا عَنْ كَثْرَةِ الْحَلِفِ وَوَعَظَهُمَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً فَأَشَارَ ابْنُ عُمَرَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَكْتُبَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ عَنْهُ فَكَتَبَهَا وَحَفِظَهَا ثُمَّ خَرَجَ فَلُحِقَ فَلَمْ يُرَ فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ.
وَمِمَّنْ رَأَى الْخَضِرَ مِنْ أَكَابِرِ الأَوْلِيَاءِ سَيِّدُنَا عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الَّذِى شُوهِدَ وَهُوَ خَارِجٌ وَشَيْخٌ مُتَوَكِّئٌ عَلَى يَدِهِ فَلَمَّا عَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ قَالَ لَهُ خَادِمُهُ رَبَاحُ بنُ عُبَيْدَةَ مَنِ الشَّيْخُ الَّذِى كَانَ مُتَوَكِّأً عَلَى يَدَيْكَ قَالَ أَرَأَيْتَهُ فَأَجَابَهُ نَعَمْ فَقَالَ ذَاكَ أَخِى الْخَضِرُ أَعْلَمَنِى أَنِّى سَأَحْكُمُ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَأَنِّى سَأَعْدِلُ فِيهَا.
وَقِيلَ فِى سَبَبِ تَوْبَةِ الإِمَامِ الزَّاهِدِ إِبْرَاهِيمَ بنِ أَدْهَمَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ شَابًّا قَدْ حُبِّبَ إِلَىَّ الصَّيْدُ فَخَرَجْتُ يَوْمًا أَتَتَبَّعُ صَيْدًا وَبَيْنَمَا أَنَا أُطَارِدُهُ إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا يَقُولُ «يَا إِبْرَاهِيمُ أَلِهَذَا خُلِقْتَ أَبِهَذَا أُمِرْتَ» فَفَزِعْتُ وَوَقَفْتُ ثُمَّ تَعَوَّذْتُ بِاللَّهِ وَرَكَضَتِ الدَّابَّةُ فَتَكَرَّرَ الأَمْرُ مِرَارًا ثُمَّ هَتَفَ بِى هَاتِفٌ مِنْ تَحْتِ السَّرْجِ يَقُولُ «وَاللَّهِ مَا لِهَذَا خُلِقْتَ وَلا بِهَذَا أُمِرْتَ» فَنَزَلْتُ فَصَادَفْتُ رَاعِيًا لِأَبِى يَرْعَى الْغَنَمَ فَأَخَذْتُ جُبَّتَهُ وَكَانَتْ مِنْ صُوفٍ فَلَبِسْتُهَا وَأَعْطَيْتُهُ الْفَرَسَ وَمَا كَانَ مَعِى وَتَوَجَّهْتُ إِلَى مَكَّةَ فَبَيْنَمَا أَنَا فِى الْبَادِيَةِ إِذْ أَنَا بِرَجُلٍ يَسِيرُ لَيْسَ مَعَهُ إِنَاءٌ وَلا زَادٌ فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسَاءُ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِكَلامٍ لَمْ أَسْمَعْهُ فَإِذَا أَنَا بِإِنَاءٍ فِيهِ طَعَامٌ لَذِيذٌ وَإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ مُنْعِشٌ فَأَكَلْتُ مَعَهُ وَشَرِبْتُ وَكُنْتُ عَلَى هَذَا أَيَّامًا وَعَلَّمَنِى اسْمَ اللَّهِ الأَعْظَمَ الَّذِى إِذَا دُعِىَ بِهِ أَجَابَ ثُمَّ غَابَ عَنِّى وَبَقِيتُ وَحْدِى فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ مُسْتَوْحِشٌ مِنَ الْوَحْدَةِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَإِذَا شَخْصٌ ءَاخِذٌ بِثِيَابِى بِلُطْفٍ فَقَالَ لِى «سَلْ تُعْطَهُ» فَرَاعَنِى قَوْلُهُ فَقَالَ لِى «لا رَوَّعَ اللَّهُ عَلَيْكَ أَنَا أَخُوكَ الْخَضِرُ فَآنَسَنِى وَأَذْهَبَ عَنِّى هَمِّى».
وَرُوِيَ أَنَّ الْخَضِرَ الآنَ عَلَى مِنْبَرٍ فِى الْبَحْرِ وَقَدْ أُمِرَتْ دَوَّابُ الْبَحْرِ أَنْ تَسْمَعَ لَهُ وَتُطِيعَ وَهُوَ حَىٌّ مَوْجُودٌ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا وَلَكِنَّهُ مَحْجُوبٌ عَنِ الأَبْصَارِ وَذَلِكَ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصَّلاحِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَالصُّوفِيَّةُ وَحِكَايَاتُهُمْ فِى رُؤْيَتِهِ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِ وَالأَخْذِ عَنْهُ وَسُؤَالِهِ وَجَوَابِهِ وَوُجُودِهِ فِى الْمَوَاضِعِ الشَّرِيفَةِ وَمَوَاطِنِ الْخَيْرِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ.