الدَّرسُ السّابِعُ والعِشرونَ
اللهُ خالِقُ الأسبابِ والمُسَبَّباتِ
الحمدُ للهِ ربّ العالمين لهُ النّعمَةُ ولهُ الفَضلُ ولهُ الثّناءُ الحسَن صلَواتُ اللهِ البَرّ الرّحيم والملائكةِ المقرّبينَ على سيدِنا محمدٍ أشرفِ المرسَلِينَ وعلى جميع إخوانِه الأنبياءِ والمرسَلِينَ وسَلامُ اللهِ علَيهِم أجمَعِينَ.
قالَ أهلُ الحقّ وهُم أهلُ السّنّةِ والجمَاعةِ لمّا كانَ اللهُ تبَارك وتَعالى مُنفَردًا بالخَلْق أي الإحْدَاثِ منَ العدَم إلى الوجودِ لا يُشَاركُه في ذلكَ شَىءٌ لا مِن ذَوي الأرْواح ولا مِنَ الجمَاداتِ ولا مِنَ الأسبابِ العاديّةِ، لا يُشاركُ اللهَ تعالى شَىءٌ في خَلقِ شَىءٍ مِنْ مَنفَعةٍ أو مضَرّةٍ أو عَينٍ أو أثَرٍ لِمَا عَلِمُوا مِن قولِ اللهِ تعالى: {هَلْ مِن خَالِقٍ غَيرُ الله ﱠ وقولِهِ:{وخَلَقَ كُلّ شَىءٍ ﱠ وقولِه: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) وقولِ رَسُولِه الكريمِ ﷺ: «إنّ اللهَ صَانعُ كُلِّ صَانِعٍ وصَنْعَتِهِ» رواه البخاري والحاكمُ والبيهقي.
فعَلِمْنَا أنّ الأسبَابَ العَاديّةَ ليسَت خَالقةً لشَىءٍ مِن مُسبَّبَاتها بل اللهُ خالقُ الأسبابِ والمسَبَّباتِ، وهَذا الترَابُطُ بينَ الأسبابِ والمسَبَّباتِ أمرٌ أَجرَى اللهُ بهِ العادةَ أي أنّ اللهَ تَعالى يَخلُق المسبَّبَ عندَ وجُودِ السّبَب فكِلاهُما أي السّبَبُ والمسَبَّبُ يَستنِدُ في وجُودِه وحصُولِه ووقُوعِه إلى إيجادِ اللهِ تَعالى، وكثِيرٌ منَ النّاسِ يقِفُونَ في تَفكِيرهِم عندَ الظّاهِر فيَقضُون ويَحكُمُونَ بأنّ هذه الأسبَابَ هيَ تَخلُق المسَبَّباتِ وهذا خِلافُ الحقِيقَةِ، لو كانتِ الأسبابُ تَخلُقُ المسَبَّباتِ لوَجَبَ حصُولُ المسبَّب عندَ كُلّ سبَبٍ والواقعُ خِلافُ ذلك، نَجِدُ كثِيرًا منَ الأسبَابِ تُستَعمَل ولا يُوَجَدُ إثْرَها المسبَّبُ فبذلكَ يُعلَمُ أنّ الأسبابَ بقَدَر اللهِ والمسَبَّباتِ بقَدَرِ الله، فإنْ سبَقَ في مشيئَةِ الله وعِلمِه الأزليّينِ وجودُ هذا الْمُسَبَّبِ إثْرَ السّبَب كانَ ذلكَ حتمًا حصُولُه، لأنّ اللهَ شاءَ وعلِمَ أنّ هذا السّبَبَ يَحصُلُ إثْرَه المسبَّبُ لا محَالَةَ مِن ذلك، أمّا إنْ لم يكن سبَقَ في عِلم الله ومشيئَتِه حُصولُ المسَبَّب إثْرَ هذا السّبَب فلا يحصُل ذلكَ المسبَّب.
رَوَينا فيمَا يَشهَد لهذا حديثًا في صحيح ابنِ حِبّان أن رسولَ الله ﷺ قال: «إنّ اللهَ خَلقَ الدّاءَ وخَلَق الدّواءَ، فإذَا أُصِيبَ دَواءُ الدّاءِ برَأَ بإذنِ اللهِ»([1]).
قولُه عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ برَأَ بإذْنِ اللهِ دَليلٌ على أنّ الأسبَابَ مِن أدويةٍ وغَيرِها لا تُوجِبُ في طَبعِها بذاتها حصولَ المسبَّبِ وشَاهِدُ الواقِع يَشهَدُ بذلكَ، نَرى كثيرًا منَ النّاس يتَداوَونَ بدواءٍ واحِد وأمرَاضُهم مُتّحِدةٌ فيتَعافى بعضٌ منهُم ولا يتَعافَى الآخَرُونَ، فلَو كانَ الدَّواءُ هوَ يَخلُقُ المسبَّبَ الذي الشّفاءُ إذًا كانَ كلُّ واحِدٍ يَستَعمِلُ ذلكَ الدّواءَ يتَعافى حَتمًا ولم يَكن هناكَ حُصولُ الشّفاءِ لبَعضٍ وعدَمُ حصُولِه لبَعضٍ، لهذا قالَ علَيهِ الصّلاةُ والسّلامُ “فَإذَا أُصِيبَ دَواءُ الدّاءِ برَأَ بإذْنِ اللهِ”فبِذَلكَ نَعلَمُ أنّ الأدويَةَ وجُودُها بتَقدِيرِ اللهِ والشّفاءُ بتَقديرِ اللهِ ليسَت الأدويَةُ تَخلُقُ الشّفاءَ بحَيثُ لا يتَخَلَّفُ عندَ استِعمالِ أيّ دواءٍ حصُولُ الشّفاءِ إثْرَه، كذلكَ سائرُ الأسبابِ العاديّةِ النّارُ ليسَت مُوجِبَةً لحصولِ الاحتراقِ إنّما اللهُ تَعالى شاءَ أن يَحصُلَ إثْرَ مُماسّةِ النّارِ للشّىءِ الاحتراقَ، فإذا حَصَلت مماسّةُ النّارِ لشَىء ولم يحصُل الاحتراقُ عَلِمنا بأنّ المانعَ مِن حصُولِ الاحتراق إثْرَ مُماسَّةِ النّارِ هو أنّه سبَقَ في عِلم الله ومشيئَتِه الأزليَّينِ أنّه لا يَحصُل الاحتراقُ إثرَ مماسَّةِ النّارِ لهذا الشىء، اللهُ تَبارك وتعالى خلَقَ ألوانًا وأشكَالا مِن ذواتِ الأرواحِ جعَلَ في بَعضِها مَا لم يجعَلْ في الآخَرِينَ، هذا الطّيرُ المسَمَّى السّمَندَلُ ويُقالُ لهُ السّمَنْدُ بِلا لامٍ ويُقَالُ لهُ السَّنْدَلُ بالسّين هذا مَعرُوفٌ أنّه لا يَحصُل له احتراقٌ، جِلدُه لا يَحتَرقُ بالنّار، وهوَ هذا الحيَوانُ في حَياتِه يَدخُلُ النّارَ ويتَهنّأُ فيها وهوَ عَزيزُ الوجُود.
يقولُ ابنُ خَلّكَان في تاريخِه عن اللُّغَويّ المشهُور عبدِ اللّطِيف البَغدَاديّ، هَذا مِن أئمّةِ اللُّغَةِ، يَقولُ شَاهَدتُ قِطعَةً مِن جِلدِ السّمَندلِ أُهدِيَت إلى الملِكِ الظّاهِر بنِ الملِكِ الصَّالح صلاحِ الدّينِ عَرْضَ ذِراعٍ في طُولِ ذِراعَينِ صَارُوا يَغمِسُونها في الزّيتِ ثم يُشعِلُونَها فتَشتَعِلُ النّارُ ثم تَنطَفِئ النّارُ وتَبقَى تلكَ القِطعَةُ بَيضاءَ نقِيّةً، وهذا الحيوانُ كغَيرِه مِن الحيواناتِ مؤلَّفٌ مِنْ لَحم ودَم وعَظْم، فلَو كانت النّارُ تَخلُقُ الإحراقَ بطَبْعِها لم يَحصُل تَخَلُّف الإحراقِ للسّمَندَل إذا مَسّتْهُ النّارُ، بل كانَ يحتَرِقُ كمَا يَحتَرِقُ غَيرُه، قال بعضُ الشّعرَاءِ مِن شُعَراء الأندَلُس وهو جابرُ بنُ صَابرٍ الْمِنجَنِيقيُّ وهوَ مِن شُعَراءِ القَرنِ السّابِع:
قُل لِمَنْ يَدّعِي الفخَارَ دَعِ الفَخْرَ لِذِي الكِبْرِياءِ والجَبرُوتِ
نَسْجُ داودَ لم يُفِدْ لَيلةَ الغَارِ وكانَ الفَخَارُ للعَنكَبُوتِ
مَعنَاهُ لَيلةَ كانَ رسولُ اللهِ ﷺ في الغَار هوَ وأبو بَكرٍ حمَاهُما اللهُ تَعالى بنَسْج العَنكَبُوتِ فكَانَ الفَضلُ لنَسْجِ العَنكَبُوتِ ولم يكن هذا الفَضلُ لنَسج دَاودَ، نَسْجُ داودَ هو الدّرْعُ، معناهُ اللهُ تعالى لم يَحمِهِما بنَسْج داودَ بل حمَاهُما بنَسْج العنكَبُوتِ وهو مِنَ الخَلْقِ الضّعِيفِ. قال:
وبقَاءُ السّمَنْدِ في لهبِ النّارِ مُزِيلٌ فَضِيلَةَ اليَاقُوتِ
وكَذاكَ النّعَامُ يَستَمرئ الجَمْرَ وما الجمرُ للنّعامِ بقُوتِ
المعنى أنّ الياقوتَ إذا لم يؤثّر بهِ النارُ فلَيسَ ذلكَ أمرًا مُستَغرَبا لأنّه حَجَرٌ، أمّا السّمَندُ فهوَ مِن لحم ودَم يَعني أنّ عدَمَ احتراقِ السّمَندِ في لهبِ النّارِ يَدُلُّ على أنّ لهُ مِيْزَةً ليسَت لليَاقُوتِ، فالحَاصِلُ أنّهُ يجِبُ اعتِقَادُ أنّ الأسبابَ لا تَخلُقُ مُسَبَّباتِها بل اللهُ يَخلُقُ المسبَّباتِ إثْرَ الأسبَابِ أي أنّه تعالى هوَ خَالقُ الأسبَابِ وخَالقُ مُسبَّباتِها، وعلى هذا المعنى يُشهَر ما شاعَ وانتشَر على ألسِنَةِ المسلِمِينَ في أثناءِ أدعِيَتِهم يا مُسَبّبَ الأسبابِ، مَعناهُ أنّ اللهَ تعالى هو الذي خَلَق في الأسبابِ حصُولَ مسَبَّباتِها إثْرَ استعمَالها وهذا مِن كلامِ التّوحيدِ الذي هو اشتَهَر وفشَا على ألسِنَةِ المسلِمِينَ عُلمَائِهم وعوَامّهِم وهو يَرجِعُ إلى تَوحيدِ الأفعَالِ أي أنّ اللهَ تَبارك وتعالى هوَ الذي فِعْلُه لا يتَخَلّفُ أثَرُه، إذا شاءَ حُصُولَ شَىء إثْرَ مُزَاولَةِ شَىءٍ حَصَلَ لا محَالةَ، لا بُدَّ، فكَمَا أنّ اللهَ تبارك وتعالى هو خالقُ المسَبَّباتِ إثْرَ استِعمَالِ الأسبَابِ فهوَ خَالقُ العبادِ حَركاتِهم وسَكَناتِهم لا خالقَ لشَىءٍ مِن ذلكَ غَيرُه.
فالإنسانُ مُكتَسِبٌ لأعمالهِ الاختياريّةِ ليسَ خَالقًا بل اللهُ خَالقُها، فحركَاتُنا اللهُ تعالى هو الذي يُجْريْها على أيديْنا ولا فَرقَ في ذلكَ بينَ أعمَالِنا التي هيَ حسَناتٌ وبينَ أعمالنا التي هيَ سيّئاتٌ، المرادُ بالحسَناتِ هنا الطّاعاتُ والمرادُ بالسّيئاتِ المعاصي، فالطّاعاتُ مِنَ الإيمانِ وما يَتبَعُه مِن صَلاةٍ وصيام إلى غَيرِ ذلكَ مما لا يُحصَى والسّيئاتُ منَ الكُفر وما بَعدَه كُلُّ ذلكَ بخَلق الله تَعالى، هذا الاعتقَادُ هو اعتقادُ الفِرقَةِ النّاجِيةِ وهمُ الصّحَابَةُ الذينَ تَلَقَّوا عن رسولِ الله المعتقَدَ الإيمانيَّ ثم تلَقَّى منهم التّابِعُونَ ثم أتْباعُ التّابعِينَ تَلَقَّوه ممن لَقُوه وهَلُمَّ جَرّا، هَذا هو عقِيدةُ الفِرقَةِ النّاجِية وتَسميَتُهم الفِرقةَ النّاجِيَة ليسَ لأقلّيَتِهم بالنّسبَةِ للفِرَق المنتَسِبَةِ للإسلام المخَالِفَةِ لهم، بل هذه الفِرقَةُ النّاجِيَةُ هيَ الأكثَرُ، أمّا أولئكَ الفِرَقُ المخالفَةُ التي خالَفَت الفِرقَةَ النّاجِيَة في مُعتقَدِها فأولئكَ وإن تعَدَّدَت أسماؤهم فقَد بلَغَت إلى اثنتَينِ وسَبعِينَ فِرقةً فإنّهم الأقَلُّ، وهذِه الفِرَق الاثنَتانِ والسّبُعونَ الشّاذّةُ الضّالّةُ كثيرٌ منها انقرَضوا ولم يَبقَ إلا أقلُّهم، وقَد حَذّرَ رسولُ الله ﷺ مِنَ الخروج عن جماعةِ المسلمِينَ أي جمهورهِم الذينَ هم يكونونَ على ما كانَ عليهِ رسولُ الله ﷺ في الاعتقَادِ وإنِ ابتعَد أكثرُهم مِن حيثُ الأعمالُ لِمَا وقَعُوا فيهِ مِن التّقصير والإهمالِ للعَمل بما يجبُ عليهم مِن الأعمالِ البَدنيّةِ لكنّهُم مِن حيثُ المعتقَدُ على ما كانَ علَيهِ رَسولُ الله ﷺ.
رَوَينَا في صَحِيح ابنِ حِبّانَ وسُنَنِ التّرمِذيّ مِن حديثِ عمرَ بنِ الخَطّابِ رضيَ اللهُ عنهُ عن رسولِ الله ﷺ قال قامَ فِينَا رسولُ اللهِ ﷺ خَطِيبا فقال: «مَنْ أَرادَ بُحبُوحَةَ الجَنّةِ فلْيَلزَم الجَماعةَ» المعنى مَن أرادَ أن يكونَ مِن أهلِ الجنّةِ الذين يَسكنُون بُحبُوحَتَها فلا يُفارقِ الجمَاعةَ([2]). المرادُ بالجَماعَةِ جمهورُ الأمّةِ لأنّ جمهورَ الأمّةِ في اعتقادِهم دائمًا على الصّوَاب، هذه الكَلِمَةُ الشّائعَةُ على ألسِنَةِ المسلمِينَ سَلَفِهم وخلَفِهم خَواصّهِم وعَوامّهِم ما شاءَ اللهُ كانَ ومَا لم يشأ لم يكن، هذا هو معتَقَدُ الرّسولِ عليه السّلام ومعتَقدُ الصّحابةِ ومَن تبِعَهم بإحسان.
ما شاءَ الله كانَ معناهُ كلُّ شىءٍ يَدخُل في الوجودِ بمشيئَةِ اللهِ وأنّ مَا لم يشإ اللهُ في الأزل دخولَه في الوجُود لم يكن، لا يدخُلُ في الوجُود، لا أحَد يستَطِيعُ أن يُغَيّر ذلكَ، لو اجتَمع أهلُ الأرض والسّماءِ على أنْ يَفعَلوا شيئًا مِن الأشياءِ لم يَستَطِيعوا أن يَفعَلُوا ذلكَ إلا أن يكونَ اللهُ شاءَ في الأزلِ قَبلَ أن يخلُقَهُم حصولَ ذلكَ الشّىءِ على أيدِيْهِم، هذه الكلمةُ المأثُورَةُ التي أُثِرَت عن السّلَف فبقِيَت في الخلَف ولا تَزالُ باقيَةً ما بقِيَ المسلِمُونَ على وَجهِ الأرض، وأصْلُ هذه الكَلِمَةِ مِن صَاحِب الشّرع ﷺ ثم تلَقّاها المسلمونَ منَ الصّحابةِ فمَن دُونَهم إلى يومِنا هذا وهيَ ذِكْرٌ منَ الأذكار المأثورةِ هذهِ عَينُ عقيدةِ أهلِ الحقّ لأنها تُثبِتُ وَحْدانيّةَ اللهِ تعالى في تخلِيقِه وتَكوينِه، المعنى أنّه لا يَحصُل عَينٌ ولا أثَرٌ أي لا يَدخُل في الوجُودِ عَينٌ ولا أثَرٌ ولا حَركةٌ ولا سكُونٌ إلا بمشيئةِ الله الأزليّةِ، أي إنْ كانَ اللهُ شاءَ حصولَ شىءٍ مِن أعيانِ الأشياء أي أجْرامِها أو أثَرٍ مِن الآثارِ أي حرَكةٍ أو سُكونٍ فلا بُدّ أن يَحصُلَ فنَحنُ لا نَعلَمُ إلا مَا شاءَ اللهُ لنَا أن نَعلَمَه قالَ الشّاعر:
وأَعلَمُ عِلمَ اليومِ والأمسِ قَبلَهُ ولكنَّني عن عِلْمِ مَا في غَدٍ عَمِيْ
ما سَيأتي بعدَ هذه اللّحظةِ التي نحنُ فيها غَيبٌ عنّا فنَقولُ إن شاءَ اللهُ حصُولَ كذا وكَذا بعدَ هذه اللّحظَة لا بُدّ أن يحصُلَ وإنْ لم يشَأ لا يَحصُلُ.
قال الله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ(30)سورة الإنسان. مَشيئَتُنا لا تَحصُل إلا بمشيئةِ الله الأزليّةِ. نحنُ نقُولُ نحنُ لنَا أفعَالٌ لا تَحصُلُ إلا بمشيئَةِ اللهِ وتَقديرِه وعِلمِه الأزليّ، ثم جعَلَ هَذه الأعمَالَ صِنفَينِ اختِياريّةً وغَيرَ اختِياريّةٍ فالاختِيَاريّةُ لنَا فيها مَيلٌ وغيرُ الاختِياريّةِ ليسَ لنَا إلَيها مَيلٌ، الاختِيَاريّةُ مُكتَسَبةٌ لنَا لا نَخلقُها بل نَكتَسِبُها، الأعمَالُ الاختياريّةُ مَعرُوفَةٌ أمّا الأعمالُ الغَيرُ اختياريّةِ مِثلُ الشّخص المدفوع مِن خَلْف فوقَع في وَهْدَة، هذا النّزُولُ في الوَهْدَة ليسَ باختيَارهِ كذلكَ الذي تُطَيّرُه الرّيحُ.
وبالسّنَدِ إلى الإمام أحمدَ بنِ الحُسَينِ أبي بَكرٍ البَيهقيِّ رحمَه اللهُ بإسنادِه إلى رافِع ابنِ خَدِيج صاحبِ رسولِ الله ﷺ أنّه قال: «سيَكُونُ في أُمّتي أقوامٌ يَكفُرونَ باللهِ وبالقُرءانِ وهُم لا يَشعُرونَ»، فقُلتُ: يا رسولَ الله كيفَ يقولونَ؟ قالَ: «يُقِرُّونَ ببَعضِ القدَر ويَكفُرونَ ببَعضٍ، يقُولُونَ إنّ الخَيرَ مِنَ اللهِ والشّرَّ منَ الشّيطَان»، وهَذه مَقالةُ طَائفةٍ منَ القَدَريّة أي المعتزلةِ.
وأَصلُ مُعتَقَدِ المعتزلةِ أنّ اللهَ تبارك وتعالى شاءَ لكُلّ العبادِ أن يكُونوا مؤمنينَ ثم يكونَ منهُم ما شاءَ اللهُ تعالى ويكونَ منهُم مَا لم يشإ اللهُ تعالى، فهؤلاء القدَريّةُ مع الجَبريّةِ على طرَفَي نَقِيضٍ، هؤلاء قالوا إنّ العَبدَ لا فِعلَ له وهؤلاء المعتزلةُ قالوا إنّ العَبدَ هوَ يَخلُق أفعالَه فلَيس للهِ تصَرُّفٌ في ذلكَ، وبينَ هَذين الفَريقَين وسَطٌ وهو مذهبُ أهلِ الحقّ أنّ العبدَ لهُ الكَسبُ وليس لهُ الخَلق فصِرنَا نحنُ معَاشرَ أهلِ الحَقّ على خلافٍ لهؤلاء وخلافِ معتقَدِ هؤلاءِ، فأهلُ الحقّ مَثَلُهم كمَثَل الحليبِ، اللهُ تَعالى يُخرج الحليبَ مِن بَينِ فَرْثٍ ودَم، يُخرجُه سَائغًا للشّاربِين هذا معتقَدُ أهلِ الحقّ، لم نُصَبْ بما أُصِيبَ به هؤلاء ولا بما أُصِيبَ بهِ هؤلاء([3]).
المسلِمُونَ المتَلَوّثونَ بالذّنُوبِ المصَائبُ التي تُصيبُهم كَفّاراتٌ لبَعضِ ذنُوبهِم وقَد تُطَهّرُهُم هذه المصائبُ مِن جميع ذنُوبِهم فالمسلِمُونَ الذِينَ هُم مِن أهلِ المعاصِي على قِسمَينِ قِسمٌ منهم المصَائبُ تَكونُ كفّاراتٌ لبَعض ذنُوبِهم ويَبقَى علَيهِم قِسمٌ مِن ذُنوبِهم يُجازَونَ بها في الآخِرَةِ وقِسمٌ منهُم يُطَهّرُهمُ اللهُ تعالى بهذه المصائبِ فيَخرجُونَ منَ الدُّنيا كيَومَ ولَدَتهم أُمُّهُم مِن كَثرَة المصَائب مِن أمراضٍ وغَيرِ ذلكَ، لكنْ هذا باعتِبَارِ أغلَبِ العِبَاد، أغلَبُ العبادِ لا يَخلُونَ مِنَ المعاصي فعلَى ذلكَ جاءَ قولُ اللهِ تعالى: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (79.سورة النساء.
فالمعتَزلةُ كذَّبُوا قولَهُ تعالى: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ (21سورة يوسف. أي لا بُدّ مِن حصُولِ مُرادِه، فالقَدريّةُ أكبَرُ ضَلالهِم نَشَأ مِن هنا أنهم قالوا اللهُ تعالى ما لَهُ تصَرُّفٌ في أعمالِ العِبادِ بَعدَ أن أَعطَاهُمُ القُدرَةَ علَيها، هُم يَخلقُونَ أَعمَالَهم خَيرَها وشَرَّهَا لكن شَاءَ أن يَعمَلُوا الحسَناتِ كلُّهم، شاءَ أن يكونَ كلُّ العبادِ مؤمنينَ طائِعينَ فأَغلَبُ العبادِ مِنَ الإنسِ والجِنّ خَرجُوا عن مَشِيئَةِ الله، المعنى أنهم غَلَبُوا مشِيئَةَ اللهِ وهَذا كُفرٌ، جَعَلُوهُ مَغلُوبًا، نحنُ نُنزّهُهُ عن المغلُوبيّةِ فنَقُولُ كُلُّ مَا يَحصُل منَ العباد من مَعاصٍ وشُرورٍ فهو بمشيئةِ اللهِ وعِلمِه، والمعتَزلةُ في العِلم لا يُخالفُونَنا يقولونَ اللهُ تَعالى كانَ عَالما في الأزلِ أنّ فلانًا وفلانًا وفلانًا يَعمَلُونَ هَذه المعاصيَ باختِيارهِم إنّما يُخَالِفُونَنا في المشيئَة، أمّا مِن حيثُ الخَلقُ أي التّكوينُ فكُلُّ أعمالِ العبادِ عندَهُم هُم يَخلقُونَها، هذانِ أصْلانِ مِن أصُولِ ضَلالاتِ المعتزلةِ، فالمعتزلةُ نسَبُوا إلى اللهِ ما يجِبُ تَنزيهُه عنه، عَمِيَت قلوبُهم عن إدراكِ الحقّ حتى إنّ مُعتزليّا ذاتَ يوم كانَ في سَفينةٍ وكانَ إلى جانبِه مجُوسيٌّ، أي مِن هؤلاء الذينَ يَعبُدونَ النّارَ، فقالَ المعتزليُّ الذي يَعتقدُ أنّ اللهَ شاءَ لكلّ العبادِ الإيمانَ والطّاعةَ ولم يَشأ أن تَحصُلَ مِن واحِدٍ منهُم مَعصيَةٌ، قالَ لهذا المجُوسيّ: لماذا لا تُسلِم؟ قال لهُ المجوسيُّ: اللهُ لم يَشأ لي، فقالَ المعتزليُّ الذي يَدّعي الإسلامَ: اللهُ شاءَ لكَ الإيمانَ ولكنّ الشيطانَ منَعَكَ، فقالَ هَذا الكافرُ المجوسيُّ: إذًا أنَا معَ الغَالِب، معناهُ على حسَبِ قولِكَ الشّيطَانُ غَالبٌ واللهُ مَغلُوبٌ إذًا أنَا أبقَى معَ الغالِب أي مع الشّيطَانِ فلا أُسلِمُ.المجوسيُّ عابدُ النّارِ عَرَف أنّ هذا القولَ يؤدّي إلى أنّ اللهَ مَغلُوبٌ.
هذَا لبُعدِهم منَ التّسلِيم للهِ، لأنّ الإيمانَ مِنْ لوَازمِه التَّسليمُ للهِ تَعالى، معنى التّسلِيمِ أن يُقالَ إنّ اللهَ تَعالى هوَ خَالقُ كُلّ ما يَدخُلُ في الوجُودِ بإرادَتِه الأزليّةِ ومشِيئَتِه الأزليّةِ وعِلمِه الأزليّ مَا كانَ خَيرًا مِن أعمالِ العِبادِ وما كانَ شَرًّا، كلُّ ذلكَ لا يَدخُل في الوجُود إلا على حسَبِ عِلم اللهِ ومَشيئتِه الأزليَّينِ، ومع ذلكَ لا يكونُ اللهُ تَعالى ظَالما وجائرًا إذا عَذّبَ العَبدَ على ما يَحصُل منهُ مِنَ المعاصي التي هيَ تَحصُلُ مِنهُم بعِلم اللهِ ومَشِيئَتِه الأزليَّينِ.
قُدَماءُ المعتزلةِ مَا كانوا يُصَرّحونَ بالعَجز أمّا متَأخّرُوهُم نَسَبُوا بالعبارةِ الصّريحةِ العَجْزَ إلى اللهِ قالوا: اللهُ تَعالى كانَ قادرًا على أنْ يَخلُقَ حَركاتِنا وسكَنَاتِنا ثم لما أعطَانَا القُدرةَ عليها وأعطَانا سلامَةَ الأسبابِ والآلاتِ أي الجوارحِ صارَ عَاجِزًا عن خَلقِ هَذه الحركَاتِ والسَّكَناتِ.
سيّدُنا عليٌّ رضي اللهُ عنه يَروي البيهقيُّ عَنه في كتابِ القَضاءِ والقَدر أنّهُ ذاتَ يوم أَدخَل إصبَعَيْه في فَمِه فأَمَسَّهُما رِيْقَه ثم رَقَمَ بهِما في كَفّه الأُخرَى، في راحَتِه الأخرَى، فقال: هذا كانَ في الكِتاب الأوّل، يعني اللّوحَ المحفوظَ، هذا الرّقَمُ الذي رقَمتُه الآنَ بإصبَعي كانَ في اللّوح المحفوظِ، معناهُ كُلُّ أعمَالِنا مَكتوبةٌ في اللّوح المحفوظِ.
أهلُ الحقّ قالوا الأعمالُ عَلاماتٌ ليسَت مُوجِباتٍ عَقليّةً أي بحسَب العَقلِ لا تُوجِبُ طَاعَاتُنا أن نكونَ حَتمًا للجَنّةِ بحَيثُ لو لم يُدخِلنا اللهُ تَعالى جنّتَهُ بأعمالِنا هذه يكونُ ظَالما، كذلكَ تلكَ المعاصي التي جعَلَها علاماتٍ للعَذاب المقيمِ في الآخرةِ لو لم يُدخِلْهُمُ اللهُ تعالى النارَ بأعمَالهم تلكَ التي جعَلَها علاماتٍ للعَذاب المقيمِ لم يكن اللهُ تعالى ظالما، هذه الحسناتُ جَعلَها عَلاماتٍ للنّعيم المقيم هو خالقُها في الذينَ عمِلُوها وهذه المعاصي جعَلها علاماتٍ للعَذاب المقيم، أي أنّ هؤلاء خُلِقُوا للنّار.
الأعمالُ علامَاتٌ لا مُوجبَاتٌ هذا مِن حيثُ المعتَقَدُ يقُولُه كلُّ أهلِ الحقّ لكن هذه العبارةُ هيَ للسَّهْلِ بنِ محمّد الذي كانَ في القَرنِ الرابِع الذي قالَ فيهِ بعضُ أهلِ العِلم إنّه هوَ مجَدّدُ ذلكَ القَرنِ الرّابع.
ثم قالَ البيهقيُّ عن الحسَن يعني الحسَنَ البصريَّ رضيَ اللهُ عنه:خَلَقَ اللهُ الخَلقَ بقَدَر وخلَقَ الآجَالَ بقَدَرٍ وخَلَقَ الأرزاقَ بقَدَر وخَلَقَ العافيةَ بقَدَر وخلَقَ البلاءَ بقَدَر وأمَرَ ونهَى.
ربّنا ءاتِنا في الدّنيا حسَنةً، وفي الآخِرةِ حَسَنةً، وقِنا عذَابَ النّار، اللهم اغفِر لنَا وارحَمْنا واهدِنَا وأصْلِح بالَنا، واسْترْ عَوراتِنا وءامِن رَوعَاتِنا، واجعَلْنا هُداةً مُهتَدِينَ غَيرَ ضَالّينَ ولا مُضِلّينَ، ربَّنا اغفِرْ لنَا ولإخوانِنا الذينَ سبَقُونا بالإيمان.
([1]) عن جابر عن رسول الله ﷺ قال: «لكُلّ داءٍ دَواءٌ فإذا أُصِيبَ دَواءُ الدّاءِ برَأ بإذنِ الله عزَّ وجَلّ» رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
([2]) قال ابنُ الأثير بُحْبُوحةُ الدَّار وسَطُها. يقال تَبَحْبَح إذا تمكّن وتَوسَّط المنزلَ وَالْمُقام، وقالَ ابنُ الجَوزي وسَطَها وخِيارَها.
([3]) الفَرْثُ: السِّرْجين (وهو الزّبْل) ما دامَ في الكَرِشِ، وهو الرَّوث.
ﱡﭐ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱠ أي يَخلُق اللهُ اللّبَن وَسِيطًا بَينَ الفَرْثِ والدّم يَكتَنِفَانِه وبَينَه وبَينَهُما بَرزَخ لا يَبغِي أحَدُهما عليهِ بلَونٍ ولا طَعمٍ ولا رائحةٍ بل هو خَالِصٌ مِن ذلكَ كُلّه، قيلَ إذا أكلَتِ البهيمةُ العلَف فاستَقرَّ في كَرِشِها طبَخَتْه فكانَ أسفَلُه فَرْثًا وأَوسَطُه لَبنًا وأَعلاهُ دَمًا والكَبِدُ مُسَلّطَةٌ على هذه الأصنافِ الثّلاثةِ تَقسِمها فتُجْري الدّمَ في العروق واللَّبَن في الضُّرُوع ويَبقَى الفَرثُ في الكَرِشِ ثم يَنحَدِرُ وفي ذلكَ عِبرةٌ لمن اعتبَرَ. وسُئل شَقيقٌ عن الإخلاص فقال تميِيزُ العَملِ منَ العيُوب كتَميِيز اللّبن مِن بَينِ فَرثٍ ودَم ﱡﭐ ﱣ ﱤ ﱠ.