الجمعة نوفمبر 8, 2024

العباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم

ترجمته:
هو أبو الفضل العباس بن عبد المطلب بن هاشم، أحد أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا، وكان أكثر الناس نصرة ومؤازرة له صلى الله عليه وسلم.

والعباس رضي الله عنه ولد قبل عام الفيل بثلاث سنين، وهو بذلك يكون أسن من الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين.

وأمه نُثيلة بنت جناب بن كُليب بن مالك، ذكر الصفدي في “الوافي بالوفيات” أنها كانت أول امرأة عربية كست البيت الحرام الحرير والديباج وأصناف الكسوة، وذلك أن العباس رضي الله عنه كان قد ضاع وهو صبي، فنذرت أمه أن تكسو البيت إن وجدته، فلما وجدته وفت بنذرها.

وكان العباس رضي الله عنه رئيسًا في الجاهلية وفي قريش، وأُسندت إليه عمارة البيت والسقاية في الجاهلية. والعمارة هي أن لا يدع أحدًا يسبُّ أحدًا في الحَرَم، فقد اجتمعت قريش وتعاقدت على ذلك وسلمت له ذلك وكانت له أعوانًا فيه.

كان رضي الله عنه معتدل الخلق ومن أحسن الرجال وأبهاهم صورة، واجهرهم صوتًا، وهو الذي أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهتف يوم حُنين: يا اصحاب الشجرة، وذلك حين حمي الوطيس واشتدت المعركة.

وعن الأصمعي أنه قال: كان للعباس راعٍ يرعى له على مسيرة ثلاثة أميال، فإذا أراد منه شيئًا صاح به فأسمعه حاجته.

وكان رضي الله عنه ذا سؤدد ورأي وحكمة، فقد قيل له: ءأنت أكبر أو النبي فقال: هو أكبر وأنا ولدت قبله.

وكان يمنع الجار ويبذل المعروف ويعطي في النوائب، وأعتق يوم موته سبعين مملوكًا كانوا له.

من مناقبه:
ويذكر أصحاب السير كالذهبي وابن سعد وابن الجوزي أنه أسلم قبل الهجرة وكان يكتم إسلامه خوفًا من إيذاء كفار قريش، ويوم بدر خرج مع المشركين مستكرهًا، ففي سير الذهبي عن عمارة بن عمار بن أبي اليسر السلمي عن أبيه عن جده أنه قال: نظرتُ إلى العباس يوم بدر وهو واقف كأنه صنم وعيناه تذرفان، فقلت له: أتقاتل ابن أخيك مع عدوه فقال: ما فعل، أٌقُتِلً قلت: الله أعز له وأنصر من ذلك، فقال: ما تريد إليَّ قلت: الأسر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلك، فقال: ليست بأول صلته وبره، فأسرته، ثم جئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وطلب النبي صلى الله عليه وسلم من العباس أن يفدي نفسه وابن أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وعُتبة بن عمرو بن جحدم، فقال العباس: يا رسول الله إني كنتُ مسلمًا ولكن القوم استكرهوني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “الله أعلم بإسلامك، إن يكُ ما تذكر حقًا فالله يجزيك به، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافدِ نفسك” وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ منه عشرين أوقية من ذهب، فقال العباس رضي الله عنه: يا رسول الله احسبها لي من فدايَ، فقال: “لا، ذاك شيء أعطاناه الله منك”، فقال العباس: فإنه ليس لي مال، فقال الرسول: “فأين المال الذي وضعتَ بمكة حين خرجت عند أم الفضل بنت الحارث ليس معكم أحد، ثم قلت لها إن أصبتُ في سفري هذا فللفضل كذا ولعبد الله كذا”، قال العباس: والذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيري وغيرها، وإني لأعلم أنك رسول الله.

وقال العباس رضي الله عنه: وأنزلت الآية: {يا أيُّها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا مما أُخذ منكم ويغفر لكم} [سورة الأنفال/ءاية:70]، فأعطاني الله مكان العشرين أوقية في الإسلام عشرين عبدًا كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله تعالى.

وكان العباس رضي الله عنه واحدًا من الذين حضروا بيعة العقبة التي حضرها سبعون رجلاً من الأوس والخزرج، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إلى أسفل العقبة تحت الشجرة مع عمه العباس رضي الله عنه، فبايعهم النبي صلى الله عليه وسلم والعباس ءاخذ بيده يؤكد له البيعة.

منزلته عند النبي صلى الله عليه وسلم:
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب عمه العباس حبًا شديدًا، ويُجله ويحترمه ويبر قسمه ويسمع رأيه ويفرح لفرحه ويحزن لضر يصيبه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات ساهرًا أول الليل وأسرى بدر في الوثاق وفيهم العباس رضي الله عنه، فقيل: يا رسول الله مالك لا تنام؟ قال: “سمعت أنين عمي في وثاقه” فقام رجل فأرخى وثاق العباس، فقال رسول الله: “مالي لا أسمع أنين العباس” فقال رجل من القوم: إني أرخيت من وثاقه شيئًَا، قال: “فافعل ذلك بالأسرى كلهم”.

ووردت أحاديث عدة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مدح عمه العباس رضي الله عنه والدعاء له ولأولاده، فقد سب رجل من الأنصار أبًا للعباس كان في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر وقال: “أيها الناس، أي أهل الأرض أكرم على الله” قالوا: أنت، فقال: “فإن العباس مني وأنا منه، ولا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا”، وفي جامع الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما بال رجال يؤذونني في العباس، وإن عم الرجل صنوا أبيه [أي مثلُ أبيه]، من ءاذى العباس فقد ءاذاني”.

وعن سعيد بن المسيب عن سعد قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في نقيع الخيل، فأقبل العباس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “هذا العباس عم نبيكم، أجود قريش كفًّا، وأوصلها”.

وروى الذهبي عن الزبير بن بكار بالإسناد عم عبد الله بن عمر أنه قال: استسقى عمر رضي الله عنه عام الرمادة بالعباس فقال: اللهم، هذا عم نبيك نتوجه إليك به، فاسقنا، فما برحوا حتى سقاهم الله، فخطب عمر الناس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده، فيعظمه ويفخمه ويبر قسمه، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس، واتخذوه وسيلة إلى الله فيما نزل بكم.

وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجل أحدًا ما يُجل العباس أو يُكرم العباس.

وكان الصحابة يجلون العباس رضي الله عنه ويحترمونه، ففي “الأدب المفرد” للبخاري أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقبل يد عمه العباس ويقول له: يا عم، ارضَ عني.

ولحسن بن ثابت رضي الله عنه أبيات مدح فيها العباس رضي الله عنه بعد أن استسقى عام الرمادة فسُقي الناس:

سأل الإمام وقد تتابع جَدْبنا *** سُقي الأنام بغرة العباسِ
عم النبي وصِنو والده الذي *** ورث النبي بذاك دون الناسِ
أحيا الإله به البلاد فأصبحت *** مخضرَّة الاجناب بعد الياسِ

مدحه النبي صلى الله عليه وسلم:
أورد الصفدي في “الوافي بالوفيات” والذهبي في سيره أبياتًا قالها العباس رضي الله عنه، مادحًا فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الرواية أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد منصرفه من تبوك: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك، فقال النبي: “قل، لا يفضض الله فاك”، فقال:

من قبلها طبتَ في الظلال وفي *** مستودع حيثُ يُخصَفُ الورقُ
ثم هبطتَ البلاد لا بَشَر *** أنتَ ولا مضغة ولا عَلَقُ
بل نطفة تركب السفينَ وقد *** ألجَمَ نسرًا وأهله الغرقُ
تُنقلُ من صالب إلى رحمٍ *** إذا مضى عالم بدا طَبَقُ
حتى احتوت بيتُكَ المهيمن من *** خِندفَ علياءَ تحتها النُّطقُ
وأنت لما ولدتَ أشرقت الـ *** أرضُ وضاءت بنورك الأفقُ
فنحن في ذلك الضياء وفي الـ *** ـنور وسُبُل الرشاد نخترق

وهذه الأبيات ذكرها أيضًا الذهبي في سيره، وابن الأثير في “النهاية” وغيرهما، وتناولها الكثير من أصحاب السير والأدباء والشعراء يشرح مفرداتها ومعاني أبياتها.

ومعنى قول العباس:

من قبلها طبتَ في الظلال وفي *** مستودع حيثُ يُخصَفُ الورقُ

أنك يا رسول الله قد كنت طيبًا قبلها، أي قبل أن تكون في الأرض، جين كنت في صُلب ءادم عليه السلام حيث خصف هو وحواء عليهما من ورق الجنة.

ثم هبطتَ البلاد لا بَشَر *** أنتَ ولا مضغة ولا عَلَقُ

أي أن ءادم عليه السلام لما هبط إلى الأرض كنتَ في صلبه ولم تكن حينها بشرًا ولا مضغة في رحم امرأة ولا علقة.

بل نطفة تركب السفينَ وقد *** ألجَمَ نسرًا وأهله الغرقُ

نسر: هو أحد الأصنام الخمسة التي كان يعبدها قوم نوح عليه السلام. والمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نطفة في ظهر سيدنا نوح عليه السلام حين ركب السفينة وغرق نَسر والكفار الذين كانوا يعبدونه.

تُنقلُ من صالب إلى رحمٍ *** إذا مضى عالم بدا طَبَقُ

الصالب: هو الصلب، والطبق: القرن. والمعنى أنك يا رسول الله كنت تتنقل من صلب ردل إلى رحم امرأة، والقرون تمضي وتتبعها قرون.

حتى احتوت بيتُكَ المهيمن من *** خِندفَ علياءَ تحتها النُّطقُ

بيتك: شرفك، والنطق: أعراض من الجبال بعضها فوق بعض. ومعنى البيت: أنك نلت من الشرف أوسطه وأعلاه بانتسابك إلى خِندِف. وخندف هي ليلى القضاعية زوجة إلياس بن مضر، وكانت العرب إذا أرادت أن تبين علو شرفها ونسبها تنتسب إليها، فكانت مثلاً عن الشرف والنسب العالي.
وفاة العباس:
كانت وفاته رضي الله عنه بالمدينة المنورة سنة اثنتين وثلاثين للهجرة، فبعث بنو هاشم من يبلغ أهل المدينة خبر الوفاة، فاحتشد الناس عند بيته ولم يقدر أحد أن يدنو من سريره لكثرة ازدحام الناس، ثم ازدحم الناس عند قبره فلم يستطع بنو هاشم أن يدنوا من قبره، فبعث عثمان بن عفان رضي الله عنه الشرطة يفسحون الطريق لبني هاشم حتى وصلوا إلى قبره.

وغسله علي رضي الله عنه وأولاده: عبد الله وقُثم وعبيد الله، وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه ودفن في البقيع، عليه سلام الله ورحمته وبركاته.