السلطان يعقوب المنصوري
ترجمته:
إنه السلطان يعقوب المنصوري قدوة السلاطين وعمدة الزاهدين، ومن أبرز الملوك في بلاد المغرب، وقائدها أيام دولة الموحدين، بل هو النسر الطائر من الأندلس المفقود الذي حلق عاليًا، وألقى عصا الترحال على قمة شاهقة في البقاع الغربي في لبنان، حيث عُرف الموطن الذي نزل فيه ببلدة “السلطان يعقوب”.
هو السلطان الكبير الملقب بأمير المؤمنين المنصور، واسمه يعقوب بن السلطان أبي يعقوب يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن بن علي القيسي الكوفي، المغربي، المراكشي، وأمه أمة رومية اسمها سحر.
ولد سنة خمسمائة وأربع وخمسين للهجرة وتوفي سنة خمسمائة وست وتسعين للهجرة، وتتباين المصادر التاريخية في وفاته إلا أن ابم خلكان يؤكد رحلته إلى بلاد المشرق وإقامته في سهل البقاع للعبادة، وبخاصة في بلدتي عيتا الفار وحمّارة [المنارة]، وكان يأوي إلى قمة الجبل المجاور حيث شق قبره بحياته وسط الصخور، وهذا شائع ومعروف في القرية التي حملت اسمه.
وتضيف المصادر التاريخية إنه تولى الوزارة لأبيه فترة من الزمن تمرس فيها بأعباء الحكم مما خوّله بعد وفاة أبيه بإجماع شيوخ الموحدين أن يتولى مكانه، ولقبوه بأمير المؤمنين المنصور. وكانت عاصمة خلافته مراكش.
ويصفه ابن خلكان بأنه صافي السمرة، طويلاً، جميل الوجه، أفوه، أعين، ضخم الأعضاء، جهوري الصوت، من أصدق الناس حديثًا.
صفاته وجهاده:
كان السلطان يعقوب رحمه الله مثال الملك العادل التقي الورع الزاهد العابد.
رفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته الأقربين، وكان يأخذ بيد الولاة [ينصحهم ويرشدهم في منع الظلم] الذين عيّنهم إذا ظلموا، فاستقامت الأمور في حياته، وعلت راية العدل، واتسعت الفتوحات، وخاض المعارك الشرسة ضد الفرنجة وكان النصر حليفه.
ومن أشهر معاركه معركة “الأرك” المشهورة التي جرت بينه وبين الفرنجة بقيادة ملكهم “الأذفونش” سنة خمسمائة وست وثمانين للهجرة. وتؤكد المصادر التاريخية انتصار السلطان يعقوب الانتصار الباهر، وأجمعت المصادر فيه على تقدير كمية الغنائم التي حازها المسلمون بحوالي مائة وستين ألف درع ومئات الآلاف من الدواب والأحمال الكثيرة من المؤن والجواهر وعشرات الألوف من الأسرى.
وكان وقع الهزيمة على الفرنجة كبير جدًا مما حمل “الأذفونش” على حلق رأسه وأقسم أنه لن يقرب النساء ولن ينام على فراش ما لم يثأر، ثم كانت الهدنة لمدة خمس سنوات بين الطرفين، وبعد انتهاء الهدنة أخذ الطرفان بالاستعداد الحربي للمعركة المقبلة سنة خمسمائة وتسعين للهجرة. وحين عزم على التوجه من مراكش إلى جزر الإفرنج لمحاربتهم أصيب السلطان يعقوب بمرض جعل الإفرنج وعلى رأسهم “الأذفونش” يطمعون في المسلمين، ويعتدون على الثغور، ويتهددون ويتوعدون، ومما زاد في الطين بلّة الرسالة التي بعثها “الأذفونش” إلى السلطان وهي من كتابة ابن الفخار يدعوه فيها إلى المنازلة، فقد أثارت الرسالة غضب السلطان الذي كتب على ظهر قطعة منها قول الله تعالى حكاية عن نبي الله سليمان: {فلنَأتِينَّهُم بجُنودٍ لا قِبَلَ لهم بها ولنُخْرِجَنَّهُمْ منها أذِلَّة وهم صاغرون} [سورة النمل/ءاية:37] والجواب ما سترى لا ما تسمع وكما يقول الشاعر:
ولا كتب إلا المشرفية عندنا *** ولا رسل إلا الخميس العرمرم
ثم زحف السلطان يعقوب بجيوشه الظافرة التي ما اعتادت أن تتراجع، ومُنِيَ “الأذفونش” وجيشه بهزيمة كبيرة جعلت جيوش المسلمين تتتبعهم فتقتل وتأسر، حتى حل الظلام.
بعد ذلك قام السلطان يعقوب بحصار “طليطلة” عاصمتهم مدة طويلة حتى استسلمت ودخلها فاتحًا.
سيرة ومواقف:
كان السلطان يعقوب قائد تاريخي من قادة الإسلام الذين أعطوا بسيرتهم العطرة وسلوكهم مثالاً يُحتذى لطلاب الآخرة.
بعد انتصاره تنازل السلطان يعقوب عن الملك ثم يمَّم شطر الشرق العربي حيث أقام في سهل البقاع زاهدًا عابدًا في الفترة الأخيرة من حياته.
ومن مواقفه الرائعة التي تدل على شهامته أن صلاح الدين الأيوبي استنجد به في الحروب الصليبية لتخليص بيت المقدس من الأسر.
ويروي أحمد بن عبد السلام الجرادي في كتابه “صفوة الأدب وديوان العرب” أن الدنانير اليعقوبية تنسب إليه، ويروي ابن خلكان في كتابه “وفيات الأعيان” صورًا عن عدله أن أخت الامير يعقوب كانت زوجة لأحد أمراء افريقيا من بني عبد الواحد، وبسبب خلافٍ ما تركت منزل زوجها ولجأت إلى منزل أخيها السلطان يعقوب، فرفع زوجها أمره إلى قاضي القضاة الذي كان من أمره أن كلّم السلطان بأن فلانًا يطلب زوجته، فلا يرد عليه السلطان، ثم يكلمه ثانية وثالثة إلى أن قدّم استقالته من العمل بعد أن توجه إلى السلطان بكل جرأة بكلامٍ حول عودة أخته [أخت السلطان] إلى زوجها، فما كان من السلطان يعقوب رحمه الله إلا أن أمر بعض حاشيته أن يأخذوا أخته إلى زوجها، وهنّأ القاضي على جرأته في الحق وأقره على عمله وكافأه.
مقام السلطان يعقوب:
على قمة جبل السلطان يعقوب يقوم مقامه الذي كان في بداية أمره مصلى صغيرًا ثم ألحقت بالمقام غرفة كمصلى في أيام الشهيد نور الدين ثم شيّد بعد ذلك مسجد البلدة الوحيد بجانب المقام الذي يُعتبر مقصد أهل الحاجات من بلاد بعيدة وبخاصة من فلسطين، ليقيموا عند قبره يدعون الله تعالى متوسلين بصاحب هذا المقام، لا يخفى أن كثيرًا من أهل المغرب كانوا يتخذون من مقام السلطان محطة في رحلاتهم.
السلطان يعقوب رجل قائد وزاهد عابد. عرفته بلاد المغرب مجاهدًا بطلاً، وعرفه بقاع لبنان ناسكًا عابدًا خاشعًا. بمثله يُقتدى، وبمثله يُتوسل، وبمثله ترجع الأمجاد وتستعاد البلاد رحمه الله ونفعنا به وببركاته.