الرّد على من يبيح تقبيل ولمس الرجل للمرأة الأجنبية التي لا تحل له
روى ابن حبان (صحيح ابن حبان، انظر الإحسان (7/41)) عن أُميمة بنت رُقَيْقَة، وإسحاق ابن راهويه بسند جيد عن أسماء بنت يزيد مرفوعًا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال (إني لا أصافح النساء).
قال الحافظ ابن حجر بعد إيراده للحديث (فتح الباري (13/204)): وفي الحديث أن كلام الأجنبية مباح سماعه، وأن صوتها ليس بعورة، ومنع لمس بشرة الأجنبية بلا ضرورة. اهـ
أما حديث أم عطية الذي ورد في البخاري (صحيح البخاري: كتاب الأحكام: باب بيعة النساء) فليس نصًّا في مس الجلد للجلد، وإنما معناه كنَّ يُشرنَ بأيديهن عند المبايعة بلا مماسة فتعين تأويله توفيقًا بين الحديثين الثابتين، ولأنه يتعين الجمع بين الحديثين إذا كان كل واحد منهما ثابتًا.
ثم إنه قد ورد في صحيح البخاري (صحيح البخاري: كتاب الأحكام: باب بيعة النساء) في نفس الباب الذي ورد فيه حديث أم عطية حديثٌ عن عائشة رضي الله عنها قالت (كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية ﴿لا يشركن بالله شيئًا﴾ [سورة الممتحنة/12] قالت وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأة إلا امرأةً يملكها).
فلو كان معنى المبايعة المصافحة كما زعموا لكان في كلامها تناقض.
قال ابن منظور في لسان العرب (لسان العرب (8/26)):
وبايعه عليه مبايعة: عاهده، وفي الحديث (ألا تبايعوني على الإسلام) هو عبارة عن المعاقدة والمعاهدة. اهـ
فليست المبايعة من شرطها لغة ولا شرعًا مسُّ الجلد للجلد، فالمبايعة تصدق على المبايعة بلا مس ولكن للتأكيد بايع الصحابة النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيعة الرضوان بالأخذ باليد، وقد تكون المبايعة بالكتابة.
ومما يردُّ كذبهم بأن غير أم عطية مدت يدها للرسول فصافحته في المبايعة حديث البخاري أيضًا من قول عائشة (صحيح البخاري: كتاب التفسير: باب ﴿إذا جآءكم المؤمنات مهاجرات﴾ [سورة الممتحنة/10]):
لا واللهِ ما مَسَّتْ يدُه يدَ امرأةٍ قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: قد بايعتُكِ على ذلك)، وأيضًا يقال لهم: أين في حديث أم عطية النص على أن غيرها قد صافح النبيّ فهذا وهم منهم وافتراء).
ويدل أيضًا على تحريم المصافحة ومس الأجنبية بلا حائل حديث :
(لأن يُطعن أحدُكم بحديدة في رأسه خير له من أن يمس امرأة لا تحلُّ له) رواه الطبراني (المعجم الكبير (20/211 ـ 212)، قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (4/326) رجاله رجال الصحيح. اهـ
وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/10): رواه الطبراني والبيهقي، ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح. اهـ في المعجم الكبير وحسنه الحافظ ابن حجر ونور الدين الهيثمي والمنذري وغيرهم.
ثم المس في الحديث معناه الجس باليد ونحوها ليس الجماع كما زعمت هذه الفرقة الشاذة، وراوي الحديث معقل بن يَسار فهم من الحديث خلاف ما تدعيه هذه الفرقة الشاذة كما نقل ذلك عنه ابن أبي شيبة في مصنفه.
فتبين أن هذه الفرقة الشاذة افتروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذبوا عائشة رضي الله عنها، وحرفوا اللغة العربية، وأباحوا ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يدل على جهلهم أنهم ادّعَوا أن حديث الطبراني في تحريم مصافحة الأجنبية من قبيل خبر الآحاد ولا يعمل به في الأحكام، فنرد عليهم بما ذكره الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه (الفقيه والمتفقه (1/96)) من جواز العمل بحديث الآحاد، وقرر الأصوليون أنه حجة في سائر أمور الدين ولم يخالف في ذلك باشتراط التواتر إمام من الأئمة إلا الآمدي وكلامه لا حجة فيه، فظهر بلا خفاء مكابرة هذه الفرقة الشاذة للحقيقة.
ثم ما يروى من أن النبيّ كانت تقوده أمة سوداء في أحياء المدينة ويقولون: في هذا الحديث حجة على جواز مصافحة المرأة بلا حائل.
يقال لهم: هذا الحديث ليس فيه النص على أنها كانت تأخذ بيده مصافحة بلا حائل، وليس هناك دليل على أنها كانت في حد مشتهاة، ومع هذا لا يجوز إلغاء الحديث الصريح الذي في مسلم (سبق تخريجه) (واليد زناها البطش) من أجل ذلك الحديث الذي يدخله الاحتمال وهذا خلاف قاعدة الأصوليين والمحدثين أنه إن تعارض حديثان ثابتان إسنادًا في الظاهر يجب الجمع بينهما ما أمكن، فإن لم يمكن فإن عُرف المتأخر كان ناسخًا والمتقدم منسوخًا، وإلا ذُهب إلى الترجيح.
فلو ذهبنا إلى الترجيح كان هذا الحديث أي حديث مسلم هو المعمول به لأن عليه إجماع الأئمة، فإن المذاهب الأربعة يحرمون المس بلا حائل بشهوة وبدون شهوة، فالحديث الذي يوافق عمل الأكثر عند المحدثين والأصوليين يكون راجحًا على الذي يخالفه، فكيف بالذي عليه عمل الجميع؟! ما فعلوه يكفي كفرًا لأن رد النصوص كفر كما قال النسفي وغيره.
فكيف يصح لهم دعوى الإسلام مع معارضته؟ وإنما المسلم من سلَّم لله ورسوله ولم يرد نصَّ القرءان ولا نص الحديث.
فهذه الفرقة الشاذة يحرفون شرع الله بتحليلهم مصافحة الرجال للنساء الأجنبيات غير المحارم وتقبيلهن عند الوداع، وقد خالفوا في هذا الإجماع وأحاديث صحيحة كما تقدم ذلك، أما الإجماع فإن المجتهدين الأربعة وغيرهم وأتباعهم من الأمة يحرمون مصافحة الأجنبيات مع اختلافهم في نقض الوضوء وعدمه، وأيضًا فهذه الفرقة الشاذة خالفوا حديث عائشة (ما مَسَّت يد رسول الله امرأة لا تحل له قط) رواه البخاري، وحديث مَعْقِل بن يسار رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لأن يطعن أحدكم بحديدة في رأسه خير له من أن يَمَسَّ امرأة لا تحل له) رواه الطبراني وحسنه الحافظ ابن حجر، فهذه الأحاديث فيها التصريح بحرمة مس المرأة الأجنبية.
وأما استدلال هذه الفرقة الشاذة بحديث أم عطية جاءنا عمر بن الخطاب فقال: أنا رسول رسول الله إليكم للمبايعة فمد عمر يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت فبايعناه فليس فيه ذكر المصافحة وإنما فيه ذكر مد اليد من عمر ومنهن فيحمل على أنه كان المد منهن للإشارة للمبايعة، ومن القواعد المقررة عند الأصوليين والفقهاء أن المحتمِلَ لا يعارض الصحيح على أن الإجماع كافٍ وحدَهُ فكيف إذا انضمت إليه هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة فبعد هذا لا يبقى للمخالف إلا المكابرةُ والعناد.
فمَن نظر بعين التأمل إلى تصرفات هذه الفرقة لعلم أنها تدعو المسلمين إلى الفوضى والتهور.
وما ذَهَبت إليه هذه الفرقة الشاذة هو دعوى إلى الفوضى في أمور الدين وهي لا تصح في أمور الدنيا، قال الأَفْوَه الأوديُّ [البحر البسيط]:
لا يَصْلُحُ الناسُ فَوْضَى لا سَرَاةَ لَهُم **** ولا سَرَاةَ إذا جُهّالُهُم سادُوا
السَّرَاةُ: السَّادَةُ.