الرَّدُّ على المُرْجِئة والقَدريّةِ مِن شَرحِ الطّحاوِيّةِ
الحمد لله ربّ العالمين وصلَّى الله على سيدنا محمَّد وعلى ءاله وسلَّم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: فَصلٌ في أصحابِ الذّنوب: قولُه – أي أبي جعفرٍ الطحاوي – «ولا نكفِّر أحَدًا مِن أهلِ القِبلةِ بذَنبٍ ما لم يستَحِلَّهُ ولا نقُول لا يضُرُّ مع الإيمانِ ذَنبٌ لمن عَمِلَه».
هاتانِ قاعِدَتان مِن قواعِد أهلِ السُّنَّة والجماعةِ، الأُولى لا نُكفِّر أحدًا مِن أهلِ القِبْلَة بذَنبٍ ما لم يَستَحِلَّه مَعناها أنّ المسلم الذي ءامنَ بالله ورسولِه وتجنّبَ الكفريّاتِ لا يُكفَّر مِن أجلِ ذَنبٍ أي مِن أجلِ أنّه قتَل إنسانًا ظُلمًا ولا مِن أجلِ أنّه زَنى ولا مِن أجْلِ أنّه شَرِب خمرًا ولا مِن أجلِ أنّه سرَق، ولا مِن أجلِ أنّه انتَحَر أي قتَلَ نَفسَه، ولا مِن أجلِ ما سِوى ذلك منَ الذّنوب كبائرِها وصغَائرِها، لا نكَفّرُه مِن أجلِ هذا الذّنب ما لم يَستحِلَّه، ما لم يَعتقِدْ أنّ هذه المعصيةَ حَلالٌ، فمَن اعتقَد أن هذه المعصيةَ حَلالٌ فعندئذٍ نكفِّرُه، أمّا ما لم يَستحِلَّه فلا نكفّرُه، نقولُ هوَ مِن عُصاةِ المسلمينَ يفعَلُ اللهُ بهِ ما يشَاءُ إنْ شاءَ يَغفِرُ لهُ ولا يُعَذِّبُه وإنْ شاءَ يُعَذّبُه ثم يُخرجُه منَ العَذابِ ولا يؤبّدُه في النّار.
والقَاعدةُ الثّانيةُ: لا نقُولُ ولا يَضُرُّ معَ الإيمانِ ذَنبٌ لمن عمِلَه، أي لا نقُولُ ما تقُولُه المرجئة الطّائفةُ الضّالّةُ، قالوا: لا يضُرُّ معَ الإيمانِ ذَنبٌ كما لا يَنفَعُ معَ الكُفرِ حسَنَةٌ. هذه قاعدَتهُم الضّالّةُ نحنُ نُخَالفُهم في ذلكَ فنَقُول الذَّنبُ يَضُرُّ صاحبَه لا بمعنى أنّه يتَحَتّمُ أن يُعَذَّبَ في الآخِرة بل بمعنى أنّ اللهَ إنْ شاءَ يُعَذّبُه بذلكَ الذّنبِ وإنْ شاءَ غفَر لهُ، هذا في الذي لم يَتُبْ أمّا الذي تابَ نقُولُ كما قال الرَّسولُ: «التّائبُ منَ الذّنْب كمَن لا ذنبَ لهُ» رواه ابنُ ماجه. ولا نقولُ أيضًا إنّ الذي يَستغفِرُ اللهَ مِن ذَنبِه وهو مقِيمٌ على ذلكَ الذّنْب كالمستَهزِئ بربِّه، هذا ورَد فيه حديثٌ ضعِيفٌ لا نَأخُذ بهِ نحن (ضَعّفَه السّخَاويُّ في المقَاصِد الحسَنَة)، نحنُ نقُولُ الذي يَستَغفِرُ اللهَ مِن ذَنبِه ولو كانَ مقِيمًا عليه لا يَترُكُه أي لم يُقْلِعْ عنه أنّ هذا الاستِغفارَ ينْفَعُه.
الاستغفارُ اللّسانيُّ يَنفَعُ لكن بشَرطِ أن يكونَ في قَلب المستغفِر شَىءٌ لو لم ينوِ لكن يُشتَرط أن يكونَ في قَلبِه نَوعٌ منَ الاستِشعَار بالخَوف منَ اللهِ أو تَعظيمُه أو محبَّتُه أو رجَاءُ رَحمتِه ليسَ مجرَّدَ أنّه تَعَوّدَ أن يقولَ هذا الشّىءَ، أمّا إذا كانَ يَستَغفِرُ بلِسَانِه لمجَرَّد أنّهُ تعَوَّدَ لسَانُه على الاستغفارِ فهذا ليسَ فيه فائدةٌ كبيرةٌ، أمّا إذا كانَ يَستَغفِرُ بلسَانِه وهوَ مُسْتَشعِرٌ في قَلبِه بتَعظيم اللهِ أو الخوفِ منهُ أو محبّتِه أو رجاءِ رحمتِه أو التّذلُّلِ له بالاعترافِ بذَنبِه لأنّ اللهَ يُحِبُّ أن يَعترفَ العَبْدُ بذَنبه فهوَ نافعٌ. أليسَ الرَّسولُ ﷺ عَلَّم أبا بَكر أن يقولَ: «اللَّهم إنِّي ظَلَمْتُ نَفسِي ظُلْمًا كَثِيرًا»([1]).
فإذَا كانَ هذا العبدُ الذي بَعدُ مُقيمٌ على ذَنْبِه يَستَغفِرُ بلِسانِه مع الاستِشعار بتَعظيم اللهِ أو الخوفِ منه أو محبّتِه أو سَعَةِ رَحمتِه يَنفَعُه ذلكَ الاستِغفارُ مع كونِه مُقِيمًا على ذلكَ الذّنبِ فتَبَيَّن مِن هذا أنّه ليسَ نَفعُ الاستغفارِ اللّسانيِّ مَقصُورًا على حالةٍ واحِدةٍ وهيَ ما إذا أقْلَع عن الذّنْب، نقولُ: إنْ أقلَع عن الذّنْب وإن لم يُقْلِع بل هو بَعدُ مُقِيمٌ على ذلكَ الذّنبِ قولُه أستَغفِرُ اللهَ باللّسانِ مع نَوع استِشعارٍ بتَعظيمِ اللهِ فهوَ نافعٌ. ولا يُغْتَرَّ بظَاهرِ ما نُقِلَ عن بعضِ السَّلَف: «الاستغفارُ يحتَاجُ إلى استِغفَار»، نحنُ لا نَأخُذ بظَاهِر هذا الكلامِ بل نقُولُ الاستغفارُ يَنفَعُ ولو مع الإقامَةِ على الذّنب، ولا نَعتَبرُ هذا الحديثَ ثَابتًا عن رسولِ الله: «المستَغفِرُ مِن ذَنْبِه وهو مُقِيمٌ عليه كالمستَهزئِ بربِّه» رواه ابن عساكرَ والبيهقيُّ([2])، هذا الحديثُ لا نعتَبرُه لأنّه ليسَ لهُ إسنادٌ مستقِيمٌ.
قال أبو جعفر رحمه الله: «ونَرجُو للمُحسِنِين مِنَ المؤمنينَ أن يَعفُوَ عنهم ويُدخِلَهُمُ الجنَّةَ برَحمَتِه ولا نَأمَنُ علَيهِم ولا نَشهَدُ لهم بالجنَّةِ ونَستَغفِرُ لمسيئِهم ونَخافُ علَيهم ولا نُقَنّطُهم».
يعني أنّنا نقُول لمن رأيناهُ بحَسَب الظّاهِر منَ المُحْسِنينَ، بحَسب الظّاهِر متَمسّكٌ بطَاعةِ الله نقُول: إنْ كانَ خُتِمَ لهذا الرّجُلِ على هذه الحالِ وكانَ ظَاهرًا وباطنًا هو على مَنْهَجٍ واحِد ظَاهرًا وباطنًا، فإنْ وافَق ظَاهِرُهُ باطِنَه ليسَ مُرائِيًا بهذه الأعمالِ الحسَنةِ التي ظهَرت منه ولا مُنافقًا بل يَعمَلُ هذه الطّاعاتِ لوَجْه اللهِ تعالى فيما يَعلَمُ اللهُ تعالى منه، إنْ كانَ على ذلكَ فإنّا نَرجُو لهُ أن يكونَ مِن أهلِ الدّرَجاتِ العُلَى في الآخرة، «ولا نَأمَنُ» أي لا نَجزِمُ بأنّ هَذا ناجٍ قَطْعًا لأنّ الظّاهِرَ قَد يُخالِفُ الباطِنَ أحْيانًا، نَكِلُ عِلمَه إلى اللهِ نقولُ في أنفُسِنا: إنْ كانَ هذا الرّجُل عنْدَ الله تعالى كما يَظهَرُ منهُ أنّهُ متَمسِّكٌ بطَاعتِه فهو عندَ اللهِ مِن أهلِ الدَّرَجات العُلَى، نُعَلِّق الأمرَ بمشيئةِ الله، هَذا معنى قولِه «ونَرجُو للمُحسِنينَ منَ المؤمنِينَ أن يَعفوَ عَنهُم ويُدخِلَهُم الجنَّةَ برَحمَتِه». وإنّما قال برَحمَتِه لأنّ هذا المحسِنُ الله يُدخِلُه الجنّةَ برَحمَتِه، معنى العبدِ المحسِن أي المتمَسِّكِ بطَاعةِ الله، هذا التّمَسُّكُ نِعمةٌ مِنْ نِعَم اللهِ علَيه، اللهُ تَعالى هوَ الذي قَدَّرَه أن يَعمَلَ هذه الحسَناتِ ولَولا إلهامُ اللهِ لهُ وتَقديرُه ما عمِلَ هذه الحسنَاتِ، اللهُ تعالى لهُ الفَضْلُ عليهِ وأمّا هو فليسَ لهُ على اللهِ مِنَّةٌ ولا فَضلٌ، لأنّ العَبدَ كُلَّ العَبدِ ظَاهرَه وباطنَه مِلكٌ للهِ، خَلْقٌ لله.
العبدُ ما خَلَق مِن نَفسِه شيئًا، حَركاتُه وسكَناتُه أيضًا بخَلقِ الله ليسَ بِخَلْقِ العبدِ؛ إذًا دخُولُه الجنّةَ ءامِنًا بلا عَذابٍ يكونُ برَحمَةِ الله تعالى أي بالإحسانِ منَ اللهِ وفَضْلٍ منهُ لأنّه لمّا كانَ وجودُه بخَلقِ الله تعالى وإيجادِه وكانت حركاتُه وسكناتُه الظّاهرةُ والباطِنَةُ بخَلقِ الله ومشيئتِه وتقديرِه وعِلمِه الأزليّ كانَ هذا الثوابُ الذي يَلقاهُ في الآخِرةِ فَضْلًا مِنَ الله.
قال رحمه الله: «ولا نَشهَدُ لهم بالجنَّة» أي لا نَقولُ إن رأيناه متَمسّكًا بطَاعةِ الله تعالى “فلانٌ مِن أهلِ الجنَّة”، ليسَ لَنا ذلكَ، ما يُدرِينا بما في قَلبِه هل وافَق قَلبُه ظاهِرَه أم لم يوافق، ثم ما يُدْرِينا بما خُتِمَ لهُ هَل سبَق في عِلم الله أن يموتَ وهو يعملُ الأعمالَ الصَّالحةَ مُطيعًا لله تعالى، أم سَبَق في عِلم الله لهُ أن ينقَلِبَ قَبلَ مَوتِه إلى الفَساد، لذلك لا نَشهَدُ له بالتّعيِين.
مِن جملةِ ما ثبَت عن سيّدنا عمرَ أنّه كانَ يَعتَرض على النَّاس إذا قُتِلَ قَتِيلٌ في بعضِ غزَواتِهم في زَمَن خِلافَتِه، إذا قُتِل قَتِيلٌ في معركةِ الكفّار، أن يقُولوا “استُشهِد فلانٌ” كانَ يَستَنكرُ هذه العبارةَ، كانَ يقُول: “قولُوا قُتِلَ في سبيل الله”، نهَاهُم لأنّ قولَهم استُشهِدَ معناهُ أنّهُ صارَ شَهيدًا أي نالَ مَرتبَةَ الشّهادةِ، والإنسانُ لا يَنالُ مَرتبةَ الشّهادةِ بمجرّد أنّه صُرِع في سَاحَةِ الحرب مع الكُفّار لأنَّ هناكَ أمورًا تَمنَعُ الشّهادةَ عندَ الله، منها أن يكونَ هذا الرّجلُ عقيدتُه فاسِدةٌ، ومنها أن تكونَ نيّتُه فاسِدةً كأن يكونَ قَصدُه بهذا القتالِ أن يُقالَ عنه فلانٌ جَريءٌ بطَلٌ، هذا مُراءٍ والمرائِي لا ثوابَ لهُ عندَ الله، أو يكونُ ما كانَ ببَالِه ابتغاءُ الأجر، أو كانَ ببَالِه ابتغاءُ الأجرِ والغَنِيمةِ، أن يَحصُلَ على أمرَين، فهَؤلاء عندَ الله تعالى لا أجرَ لهم. أمّا الذي لهُ ثوابٌ فهو الذي حَضَرَ لِلأجْرِ فقَط أي لأنّ اللهَ يُحِبُّ الجِهَادَ في سَبِيْلِه.
أمّا الذي شَهِدَ لهُ الرَّسولُ ﷺ بأنّهُ شَهيدٌ نقُولُ شَهيدٌ. حمزةُ بنُ عبدِ المطّلب وغيرُه منْ شُهداءِ أُحُدٍ نقولُ عنهم فلانٌ الشّهيدُ فلانٌ الشّهيدُ لأنّ الرَّسولَ ﷺ شَهِدَ لهم، كذلكَ أهلُ بَدْر نقولُ عنهُم أهلُ الجنَّة، الذي قُتِلَ في المعركةِ مِن هؤلاءِ والذي رجَعَ سالِمًا نقولُ عنه مِن أهلِ الجنّةِ لأنّ الرَّسولَ شهِدَ لهم بالجنَّة، شُهداءُ أُحُدٍ وشُهَداءُ بَدر وكذلكَ أهلُ الحُدَيبِيَةِ الذين بايَعُوهُ في الحُدَيبِيَةِ وهُم نحوُ ألفٍ وخمسُمائةٍ هؤلاءِ أيضًا شَهِد لهم بأنّهم لا تَمَسُّهم النّارُ، كذلك أُنَاسٌ شَهِدَ لهم بالشَّهَادة.
كانت امرأةٌ يُقال لها أمُّ ورَقَةَ رضيَ الله عنها كانَ الرَّسولُ ﷺ أَذِنَ لها أن تَؤُمَّ أهلَ دارِها، كانَ يقولُ للصّحابةِ قُومُوا بنا نزُورُ الشّهيدةَ، فنالتِ الشّهادةَ بالقَتْلِ ظُلْمًا، قُتِلَت ظُلْمًا. كانَ لها غُلامَانِ مملُوكَانِ لها مِلْكَ يَمينٍ فَمَكَرا لها مَكْرًا، ذاتَ يومٍ لم يكُن أمامَهُما غيرُهما فجاءا فغَمَّاها أي خنَقَاها فماتَت. هَذا حصَلَ بعدَ وفاةِ الرَّسولِ ﷺ في خِلافةِ عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه، فتَحقَّق قولُ رسولِ الله ﷺ فيها، هذا القولُ قالَه رسولُ الله بوَحْيٍ مِن الله، أَوْحَى إليه أنها ستُقتَل ظُلْمًا وتنَالُ الشَّهادةَ.
قال أبو جعفر رحمه الله تعالى: «ونَستَغفِرُ لمسِيئِهم ونَخافُ علَيهم ولا نُقَنّطُهم».
المسلمُونَ العُصاةَ نَستَغفرُ اللهَ لهُم ونخَافُ علَيهم نقولُ: إنْ ماتوا قبلَ التّوبةِ يجُوز أن يُعَذّبَهمُ اللهُ تعالى ويجُوز أن يُسامِحَهُم. «ولا نُقَنّطُهم» لا نَقولُ لهُ أنتَ مِن أهلِ النّار، لا نقولُ له هذا لأنّنا لا نَدري هل هذا الإنسانُ كتَبَ اللهُ لهُ أن يموتَ على الإيمانِ قبلَ التّوبة وهو عاصٍ متَلوّثٌ بذنُوبه ويكونُ شاءَ اللهُ لهُ أن تُغفَر ذنُوبُه فيَدخُلَ الجنّةَ بلا عَذاب، لا نَدري لذلكَ لا نقُول لهُ أنتَ مِن أهلِ النّار ولا لغَيرِه فُلانٌ مِن أهلِ النّار، معنى «ولا نُقَنّطُهم» أي لا نَجعَلُهم يَقنَطُونَ مِن رَحمةِ الله، المسلمُ مَهما كثُرَت ذنُوبُه لا نُقَنّطُه مِن رحمةِ الله نَنصَحُه بالتّوبةِ.
نقولُ له هذا العملُ الذي أنتَ عليه يُوْجِبُ النَّار لفاعِله تُبْ إلى الله، المعنى إن شاءَ الله تعالى أن يُعذّبَكَ بذنوبِك هذه ومُتَّ قبلَ أن تتوبَ منها أنّكَ تَستَحِقّ النَّار، أمّا أن نقولَ أنتَ مِن أهلِ النّار ونجزِمَ فلا يجُوز.
قال المؤلف أبو جعفر الطحاويُّ رحمه الله: «وأفعالُ العبادِ هيَ خَلقُ اللهِ تعالى وكَسْبٌ مِن العِباد» أي أنّ حركاتِ العبادِ وسكَناتِهم أي سكُونَهُم بخَلق اللهِ تبارك وتعالى ليسَ العبدُ يَخلُقُها، وهيَ كَسبٌ منَ العبادِ، مِن حيثُ العَبدُ هيَ كَسبٌ أمّا مِن حيثُ الخَلقُ فهيَ بخَلق الله، حرَكاتُنا وسكُونُنا الاختياريّةُ وغَيرُ الاختياريّةِ بخَلق الله تعالى ليسَ العبدُ الذي تَقُوم بهِ الحركةُ والسّكُونُ يَخلقُها، فهوَ مَحَلٌّ لخَلق الله.
الكَسبُ هو توجِيهُ إرادةِ العبدِ نحوَ هذه الحركاتِ والسّكَناتِ هذا صِفَةُ العبدِ أمّا خَلقُ هذه الحركاتِ والسّكَناتِ فهيَ صِفَةُ اللهِ تعالى، اللهُ تعالى خَالقٌ بتَخليقِه الأزليّ ومخلوقُه حَادثٌ. وتخلِيقُ اللهِ تعالى لهذه الحَركاتِ والسّكَناتِ أزليّ، لأنّ مِن صِفاتِ اللهِ التّخليقَ التّكوينَ فهو بهذه الصّفَةِ الأزليّة وقُدرتِه الأزليّةِ يُحدِث هذه الحركاتِ والسّكَناتِ فِيْنا. هذا في الأفعالِ الاختياريّةِ أمّا الحركاتُ الاضطِراريّةُ كحرَكة الشّخصِ المرتَعِش ونَبْضِ العرُوق هذه ليسَت باختِيارنا إنّما هيَ بمَحض خَلقِ الله تَعالى.
الخلقُ بمعنى التّقديرِ يُوصَف به اللهُ ويُوصَف بهِ العَبدُ لكنّ تقديرَ الله أحسَنُ لأنّه لا يُخطِئ ولا يتَغيّر ولا بُدَّ مِن نَفاذِ مُقَدَّر الله تعالى، أمّا مقَدَّر العبدِ قد يتحَقّقُ وقد لا يتَحقَّق، بهذا المعنى وَرد قولُ الله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
الجَبريّةُ كَذّبوا قولَه تعالى:{بمَا تَعمَلُونَ} بمَا تَفعَلُونَ}والمعتزلةُ كذّبَت قولَ الله تعالى: {هَل مِن خَالِقٍ غَيرُ اللهِ} وقولَه:أفَمَنْ يَخلُقُ كَمَنْ لا يَخلُقُ} ﱠ وقولَه:اللهُ خَالِقُ كُلّ شَىء} وقولَه: قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
قالَ رسول الله ﷺ: «إنّ الله كتَب مقَاديرَ الخَلائق قبلَ خَلقِ السّماواتِ والأرض بخَمسِينَ ألفَ سنَةٍ» رواه مسلم. وفي روايةٍ «قَدَّرَ» لكنَّ المرادَ بهذه الرّوايةِ رِوايةُ كَتَبَ، كَتَبَ في اللّوح لأنّ اللّوحَ حَادثٌ وكلُّ حَرف فيهِ حادِثٌ أمّا تَقديرُ الله الأزليُّ الذي هو صِفةُ ذاتِه فهوَ أزليٌّ ليسَ حادثًا. وهذا الحديثُ معناه أنّ اللّوحَ المحفوظَ سُطِّرَ فيهِ كُلُّ مَا يَحدُث في هذه الدُّنيا إلى يوم القيامَة، هذا كُلّ ما كُتِب في اللوح المحفوظ، وقَد ورَد في وَصْف اللوح المحفوظِ أنّه « مِن دُرَّةٍ بَيضاءَ حَافَتَاهُ يَاقُوتَةٌ حمراءُ» رواه الطبراني، الخَلقُ يَأتي بمعنى التّقدير، كذلكَ افتراءُ الكَذب، يُقالُ خلَق فلانٌ هذا الخَبَر أي افتَراه هذا يصِحُّ إضافَتُه إلى العَبد.
قالَ الشّارحُ القُونَويُّ النَّسفيُّ رحمه الله: اختَلَفَ النّاسُ في الأفعالِ الاختِياريّةِ للخَلق فزعَمَتِ الجَبريّةُ رئيسُهم جَهمُ بنُ صَفوانَ التّرمذيُّ أنّ التّدبيرَ في أفعالِ الخَلق كُلِّها للهِ تَعالى وهيَ كُلُّها اضطِراريّةٌ كحركاتِ المرتَعِش وحركاتِ العرُوق النّابِضَة وإضَافَتُها إلى الخلْقِ مجَازٌ وهيَ على حَسَبِ ما يُضَافُ الشّىءُ إلى مَحَلِّهِ دُوْنَ ما يُضَافُ إلى مُحَصِّلِه فقولُنَا ضَرَبَ زَيْدٌ وَذَهَبَ عَمْرو بمنزلَةِ قولِنا طالَ الغُلام وابيَضّ الشّعَر وشَاخَ عبدُ الله، وذهَب جمهورُ المعتزلةِ إلى أنّ الأفعالَ الاختياريّةَ مِن جميع الحيواناتِ بخَلْقها أي قالَ جمهورُ المعتزلةِ إنّ الأفعالَ الاختياريّةَ مِن جميع الحيواناتِ، ليسَ الإنسانَ فقَط، بخلقِها أي بخَلق هذه الحيواناتِ لا تعَلُّقَ لها بخَلق الله تعالى، واختَلَفوا فيما بينَهم أنّ الله تعالى هل يَقدِرُ على أفعالِ العباد قالَ أبو عليّ وأبو هاشِم لا يَقدر، وقال أبو الهُذَيل وأبو الحسَن يَقدر، هؤلاء مِن رؤوس المعتزلةِ وأخبَثُ هؤلاء أبو هاشِم الجُبّائي وأبو علي الجُبَّائيّ وهما والِدٌ ومولُودٌ، أبو عليّ هو الأبُ وأبو هاشم ابنُه هَذان مِن أخبَثِ المعتزلة، قالوا اللهُ لا يَقدِرُ أن يَخلُق حركاتِ العبدِ وسُكونَه، قالوا لأنّه أعطاهُ القُدرَةَ عليها ثم هو صارَ عَاجزًا بعدَ أن أعطاهُ القُدرةَ عليها، جعَلُوا اللهَ كما يقولُ المثَلُ أدخَلتُه داري فأَخرَجَني منها.
وَقالَ أهلُ السُّنَّةِ للخَلق أفعالٌ بها صَارُوا مُطِيعِينَ وعُصَاةً وجعَلُوها مَخلُوقَةً للهِ تعالى والحقُّ تعالى مُنفَردٌ بخَلق المخلوقاتِ لا خالقَ لها سِواهُ ولا مُبدِع غيرُه، ومذهَبُ الجبريّةِ باطِلٌ لا حاجَة إلى بيَانِه، وأمّا المعتزلةُ فهُم يتَمسّكُونَ بقَوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ﱠ، هم يقولونَ هذه الآيةُ فيها دِلالةٌ على أنّ غيرَ الله تعالى يَخلُق، والجوابُ عن ذلكَ أن نقولَ هَذه الآيةُ ليسَت في محَلّ النّزاع هذه الآيةُ تَعني الخَلْق بمعنى التّقديرِ لا تَعني الخَلقَ بمعنى الإحداثِ مِنَ العدَم الذي هو محَلُّ النّزاع بينَنا وبينَكُم هكذا نَقولُ لهم. ويتَعلّقُونَ أيضًا بالأمرِ والنّهي والوَعْدِ والوعِيد، هذا إحْدى تَمويهاتِهم، قالوا لو كانَ اللهُ هو الخالقَ لأفعالِ العبادِ لصَار هو المأمورَ المنهيَّ المثابَ المعاقَبَ المطيعَ العاصيَ وكلُّ هذا هُرَاءٌ ليسَ تحتَه طَائلٌ. ولأنّ مِن أفعالِ العبادِ فيهِ ما هوَ قَبِيحٌ، العَبْدُ يُذَمُّ على بعضِ أفعالِه كما يُمْدَحُ على بعض أفعَالِه فلَو كانَ اللهُ تعالى خَالقَ هذا العَملِ المذمومِ الذي يُذمّ بهِ العبدُ لكَان هو أيضًا مَذمومًا.
نقولُ اللهُ تعالى لا يَقْبُحُ عليهِ خَلْقُه لمعاصي العبادِ لا يكونُ ذلكَ قَبِيحًا مِنَ الله
إنّما اكتِسَابُ العبادِ المعاصيَ هذا القبِيحُ لأنّ اللهَ خَالقٌ لكُلّ شَىء، مَالكٌ لكُلّ شَىءٍ ليسَ لهُ ءامرٌ ولا ناهٍ، أمّا العبادُ فهم مخلوقُون لخالقِهم، فَهم إن تَصَرَّفوا ضِمنَ إذْنِ خَالقِهم لا يُلامُون، وإنْ تصَرّفوا على خِلاف الأمر والنّهي منَ الله تعالى يكونونَ مَذمُومِينَ مستَحِقّين للعِقاب. المعتزلةُ يَقِيسُون الخالِقَ على المخلوق، الخالقُ لا يُقاسُ على المخلوقِ.
قال المؤلف رحمه الله: «والسّعيدُ مَن سعِدَ بقَضاءِ اللهِ تعالى والشّقِيُّ مَن شَقِيَ بقَضاءِ اللهِ تعالى».
المعنى أنَّ اللهَ تَعالى متَفضِّلٌ على بعضِ عبادِه أنْ جعلَهُم سُعداءَ فهو لهُ المِنَّةُ على هؤلاءِ أن جعَلَهُم سُعداءَ لهُ الفَضلُ والمِنَّةُ ليسَ ذلك واجبًا علَيه، كما أنّ الشّقيَّ أي مَن علِمَ اللهُ تبارك وتعالى أنّهُ مِن أهلِ النّار،{خالدين فيها} إنما شَقِيَ بقَضاءِ الله تعالى عليه بالشّقاوة، كذلكَ الأعمالُ التي أجرَاها اللهُ تعالى على يدِ السّعيدِ مِن الطّاعاتِ فهي بقضَاءِ الله وهي مِن فَضْل اللهِ تعالى، وكذلكَ الأعمالُ التي أجرَاها على يدِ الشّقيّ منَ الكُفر والمعاصي فهيَ بقَضاءِ اللهِ تَبارك وتعالى لا يختَلِفُ في هذا اثنانِ مِن أهلِ السُّنَّة والجماعةِ مِنَ الصّحابةِ ومَن تبعَهُم بإحسان، إنّما المخَالفونَ في هذا أُناسٌ زاغُوا عمّا كانَ عليهِ الصّحابةُ وهُمُ المعتزلةُ ويُقالُ لهم القَدَرِيَّةُ، هؤلاء كانَ لهم ظهُورٌ في بعضِ عصُورِ العبّاسيّة وذلكَ لأنّ بعضَ خلَفاءِ العبّاسيّة وافقَهُم في شَىءٍ مِن مقَالاتِهم ليسَ في جميع مقَالاتِهم وهو المأمونُ العبّاسيُّ هذَا وافقَهُم في قولِهم القرءانُ مخلوقٌ، أمّا في سَائر مسَائلهِم كالقولِ بأنّ العبدَ يَخلُق أفعالَه ليسَ اللهُ خالقَ حركاتِ العبدِ وسكونِه فلم يوافِقْهم
فيها، لم يكنْ معهُم فيها.
كذلكَ قولُهم بأنَّ اللهَ لا يُرَى في الآخِرةِ للمؤمنينَ كما لا يُرى في الدُّنيا لم يَكن معهم فيه. إنّما غايةُ ما ابتُلِيَ به بسبَب موافقَتِهم هو القولُ بأنّ القرءانَ مخلوقٌ واللهُ أعلَم بما كان يعتقدُه في ذلكَ لكنّ هذا اللّفظَ كان يقولُه ويُجبِر الناسَ عليه ويؤذي مَن خالَف في ذلك كالإمام أحمد، ءاذاهُ إيْذاءً كبيرًا.
أمّا في مِثْلِ هذه المسئلةِ مسئلةِ السّعيدِ والشّقِيّ لم يكن مخالَفةٌ وانفرادٌ عن أهل السُّنَّة منَ المأمون إلى ءاراءِ المعتزلةِ. المعتزلةُ لو كانوا اقتَصرُوا على قولهم القرءانُ مخلوقٌ كانَ أهونَ شرًّا ممّا أضافوا إلى ذلك، وأمّا قولُهم بأنّ العبدَ يَخلُق أعمالَه فبِناءً على ذلكَ قالوا فحَتْمٌ على اللهِ أن يُدْخِلَ العبدَ الطّائِعَ الجنّةَ فلو لم يفعلْ لكانَ ظالمًا. نحن نقولُ: العبدُ لا يَخلُق شيئًا مِن ذاتِه ولا يَخلُق شيئًا مِن أعماله إنّما اللهُ تعالى خالقُ ذاتِه وأعمالِه أي حركاتِه وسُكونِه، وهذا العبدُ الذي وفّقَهُ اللهُ بأنْ أجرَى على يدِه الطّاعةَ وحمَاهُ منَ الكُفر فإنّما ذلكَ بفَضْل الله تعالى عليه فلَه المِنَّةُ على العبدِ ليس لهذا العبدِ مِنَّةٌ على اللهِ، فإدْخالُه الجنَّةَ في الآخِرة فَضلٌ منَ اللهِ تعالى عليهِ ليسَ اللهُ مُلزَمًا مجبُورًا بذلكَ، وكذلكَ الشّقيُّ وهو مَن علِم اللهُ أنّه يموتُ على الكفر فأَجرى على يدِه الكفرَ والمعصيةَ، اللهُ تباركَ وتعالى لا يكونُ ظَالمًا بقَضاءِ الشّقاوةِ عليهِ لأنّهُ مِلْكُهُ وخَلْقُه لا مَالِكَ حَقيقيٌّ للعبادِ إلّا اللهُ ليسَ فوقَه حَاكِمٌ يأمُرُه أو يَنهَاهُ فَلا يتَوجَّهُ لأحَدٍ على اللهِ أمرٌ ونهيٌ هو الآمِرُ النَّاهي لأنّه المنفَردُ بخَلق كلِّ شىء، العبدُ وحركاتُه وسكونُه بخَلق اللهِ تعالى فمَن أجرى اللهُ على يدِه الخَيرَ الإيمانَ والطّاعةَ فلْيَحمَدِ اللهَ فإنّ اللهَ تفَضّلَ عليهِ بما هو ليسَ بواجِبٍ عليهِ ليسَ بفَرْضٍ علَيه، أمّا ما وردَ في القرءان وفي الحديث مِن أنَّ مَن فعَل كذا كانَ حَقًّا على الله أن يَفعَلَ بهِ كذا فإن المُرَادَ بذلك أنّ اللهَ وعَدَ فَضْلًا وكرَمًا، وَعَدَ فلا يُخلِفُ المِيْعادَ هذا مَعناه، كهذا الحديثِ الذي رواه البخَاري: «أَنَّ حَقَّ اللهِ على عبادِه أن يَعبُدوه ولا يُشْرِكوا به شيئًا وحَقُّ العِبادِ على الله أن يُدخِلَهُمُ الجنَّة» معناهُ أنّ ذلكَ فَضلٌ مِنَ الله، وَعَدَهُم واللهُ لا يُخلِفُ الميعادَ، ليسَ المعنى أنّ العبدَ إذا عبَدَ اللهَ ولم يُشرك به شيئًا كانَ فَرضًا لازمًا على اللهِ تعالى أن يُدخِلَه الجنَّةَ إنّما المعنى أنّ هذا وَعْدٌ مِنَ اللهِ تَفَضُّلًا وتَكَرُّمًا منه على العَبد.
فصل في القَدَر: قولُ المؤلِّف أبي جعفر: «وأَصْلُ القَدَرِ سِرُّ اللهِ تعالى في خَلقِه لم يَطَّلِع على ذلكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبيٌّ مُرسَلٌ».
قال الشارح: والمُرادُ بالقَدَر التَّقْديرُ. قال الإمامُ الحَسَنُ البِصْرِيُّ رضي الله عنه وغيرُه منْ أئمَّةِ السَّلَف: «مَن كذَّبَ بالقَدَر فقَد كفَر». المعنى أنّ الذي لا يعتَقدُ جَزمًا بلا شكٍّ أن مَا يَجري على العبادِ مِن أعمالٍ ظاهِرةٍ وباطِنَةٍ بتَقدير الله مَن لم يعتقد هذا فاعتقَدَ خِلافَه بأن اعتقدَ أنّ العبدَ هو الذي يُحْدِثُ ويَخلُق أعمالَهُ فقَد كفَر، العَبدُ لا يُحْدِثُ منَ العَدَم إلى الوجود إنّما يُوَجِّه إرادَتَه نحوَ الشّىء الذي يَميْلُ إليه نحوَ تلكَ الحركةِ أو السّكونِ فيَخلُق اللهُ تعالى تلكَ الحركةَ أو السّكونَ، يَخلقُها اللهُ تعالى في العبدِ، ليسَ كما تقولُ المعتزلة. قالوا إنّ اللهَ تعالى كانَ قَادرًا على أن يخلُقَ حَركاتِ العبدِ وسكونَه قبلَ أن يُعطِيَه القُدْرةَ فلَمّا أعطاهُ القُدْرَة صارَ عَاجزًا، قالوا خرَج مِن يَده لأنّه أعطاهُ القُدرَةَ على هذه الحركاتِ والسَّكَناتِ، جعَلُوا اللهَ كما قالَ بعضُ العلماءِ أَدخَلتُه داري فأخرَجَني منها. فبَعدَ قَولِهم هذا المؤمنُ لا يَسَعُه إلّا تكفيرُهم، العَجَبُ لكَثيرٍ منَ الفقهاءِ يَعتَبِرونَهم منَ المسلمينَ ولَعلَّ هؤلاء لم يَطَّلِعُوا على هذه المقالةِ الشّنِيعَة، فإنّا لله وإنّا إليه راجِعون.
فمَعنى القَدَر التَّقديرُ ومعنى التَّقديرِ التّدبيرُ، قالَ ذلك بعضُ اللُّغَويّينَ وهو الزَّجّاج. وقَد سُئِلَ الشافعي رضي الله عنه عن القَدَر فقالَ أبياتًا وهي:
ما شِئْتَ كانَ وإن لم أشأْ وما شِئتُ إن لم تَشَأْ لم يكُنْ
خَلَقْتَ العِبَادَ على مَا عَلِمْتَ ففِي العِلْم يَجْرِي الفَتى والمُسِنّْ
على ذا مَنَنْتَ وهذا خذَلْتَ وهذا أعَنْتَ وذا لم تُعِنْ
فمِنْهُم شَقِيٌّ ومِنْهُم سَعِيْدٌ ومِنهُم قَبِيْحٌ ومنهُم حَسَنْ
هذا كانَ جوابُ الشَّافعيّ لتَفسِير القدَر، فحَاصِلُ هذا الكلام أن القَدَرَ هوَ مَشيئةُ الله تعالى التّابِعةُ لعِلْمِه أي الموافقةُ لعِلمِه لأنّ المشيئةَ لا تُخالِفُ العِلمَ، مشِيئةُ الله تعالى تابعَةٌ للعِلم بالحَادثاتِ التي تَدخُل في الوجود ممّا يتَعلّق بأفعالِ العبادِ وغَيْرِ ذلك.
فبقولِه: «ما شِئتَ كانَ وإنْ لم أشَأْ» أفهَمَ أنّ ما شاءَ اللهُ تعالى دخولَه في الوجود كانَ أي وُجِدَ لا بُدَّ مِن ذلك، لا أَحَدَ يَمنَعُ نفَاذَ هذه المشيئةِ، لا يمنَعُ نفاذَ هذه المشيئة دَعوةُ داعٍ ولا صَدَقَةُ متَصدِّق ولا بِرُّ الوالدَين ولا شىءٌ منَ الحسَنات، إنّما نَفْعُ الدّعاءِ والصّدقةِ وبرِّ الوالِدَين وصلةِ الرَّحِم الثّوابُ، فإن كانَ سَبَقَ القَدَرُ في أنّ هذا الإنسانَ يَفعَلُ هذه الدَّعوةَ يَدعُو أو يتصَدّق أو يَبَرُّ والدَيه أو يَصِلُ رحِمَه فيُعطَى ما طلبَه أو يُدْفَعُ عنه ما طلَبَ أن لا يُصيبَه فهناك صار دُعَاؤُهُ منَ القَدَر ونَيْلُه لطَلبِه منَ القَدَر، وكذلكَ انصرافُ البلاءِ الذي طلَب مِنَ الله أن لا يُصيبَه منَ القَدَر، كلٌّ منَ القَدَر، فكثيرٌ منَ الناس لا تَبتَعِدُ أذهانُهم عن اعتقادِ أنّ اللهَ يُغَيّرُ مشيئتَه، قَد يَعتقدُ معتَقِدٌ أنّ الله يكونُ شاءَ في الأزل أن يُصيبَ فُلانًا كذا ثمّ العبدُ يَدعُو بأن لا يُصيبَه ذلكَ الشّىءُ فيُؤخّرُ اللهُ عنه وقَد كانَ شاءَ في الأزلِ أن يُصيبَه، هذا ضلالٌ وكفرٌ لأنّ الله تعالى لا تتَغيّرُ عليه صفاتُه أي لا يشَاءُ مَشيئةً جديدةً، بل مشيئتُه أزليّةٌ شاملَةٌ لكلِّ ما سيَحدُث في الدّنيا وفي الآخِرة إلى ما لا نهايةَ لهُ، تلك المشيئةُ الأزليّةُ الأبديّةُ شاملةٌ لكُلّ ما سيَحدُث في هذه الحياةِ وفي الحياةِ الثّانيَةِ إلى ما لا نهايةَ لهُ هذا الذي ينبَغي أن يُعْتَقَد.
فالعَبدُ إذا دَعَا بشَىءٍ فأُعْطِيَ ذلكَ الشّىءَ أو دَعَا بأن يَسْلَم مِن شَىءٍ فَسَلِم فإنّما ذلكَ على حسَب مشيئةِ اللهِ الأزليّة، يكونُ سبَق في مشيئةِ الله الأزليّة أنّ هذا الإنسانَ يَدعُو أن يَنال كذا فيُعطَى ذلكَ الشّىءَ أو أنّ هذا الإنسانَ يصِلُ رحمَه أو يتَصَدّقُ بصَدَقةٍ أو يَبَرُّ والِدَيه فيُدْفَع عنه كذا منَ البلاء، هذا يَصيرُ على حسَب مشيئةِ الله الأزليّةِ ليسَ على خِلاف مَشيئةِ اللهِ الأزليّةِ، ويُقالُ لهذا الشّىء الذي طلَب العبدُ أن يَسْلَمَ منه فَسَلِم أو طَلَب أن يُعْطَى فأُعطِي يُقَال لحصُولِ هذا الشىء للعبدِ القَدَرُ المعَلَّقُ، بمعنى أنّ هذا المقدُورَ وهوَ نَيلُ الشّخص لهذا الطّلَب بصلَة رحمِه أو بصَدقتِه أو بِبرِّ والدَيه مُعَلَّقٌ في صُحُف الملائكةِ، بمعنى أنّه كُتِب في صحُف الملائكة فلانٌ إنْ برَّ والدَيْه يكونُ عمرُه مَثلًا مائةً وإن لم يَبرَّ يكونُ عمرُه سِتّينَ، أو إن تصَدَّق فلانٌ بكذا أو إن وصَل رحمَه يكونُ عمرُه مائةً وإن لم يفعل فعُمرُه سِتّونَ وما أشبَه ذلك، فهذا الشّىءُ الذي يحصُل لهذا العبدِ يُقالُ له القضاءُ المعلَّقُ، لأنّه كُتِب في صحف الملائكةِ على وجْه التّعليق، لأنّ هذا التّعليقَ أخَذُوه منَ اللّوح المحفوظ. والتّقديرُ معناه هذا الذي فسَّره الشافعيّ أي أنّ التقدير هو مشيئةُ الله التابعةُ لعلمِه الأزليّ فيما يتعَلَّق بالحادثاتِ التي تحدُث أي تَدخُل في الوجود.
يا أرحمَ الرّاحمينَ نَسألُكَ بنَبِيّنا محمَّدٍ أن تَغفرَ لنا وتَسْتُرَ عَوراتِنا وتُؤْمِنَ رَوْعَاتِنَا وتجعَلَنا مِن عبادِكَ المحسِنين الذينَ يَخشَونَك كأنَّهُم يَرَوْنَك، اللهم وقِنَا شرَّ ما نتخَوَّف.
([1]) عن عبد اللهِ بنِ عَمرو رضي الله عنهُمَا عن أبي بَكرٍ الصِّدّيق رضي الله عنه أنّه قال لرسولِ الله ﷺ وفي رواية أنّه قال: يا رسولَ اللهِ عَلّمْنِي دُعاءً أدْعُو به في صَلاتي قال: قلِ اللهُمّ إنّي ظلَمْتُ نَفسِي ظُلْمًا كَثيرًا ولا يَغفِرُ الذُّنُوبَ إلا أنتَ فاغْفِر لي مَغفِرَةً مِنْ عِندِك وارْحَمْنِي إنّكَ أنتَ الغِفُورُ الرّحِيمُ”. هذَا حَديثٌ صَحيحٌ أخرجَه أحمد.
([2]) قال الحافظ الزّين العراقيّ في «تخريج أحاديث الإحياء»: “أخرجه ابن أبي الدنيا في التوبة ومِن طريقه البيهقيُّ في الشعب من حديث ابنِ عباس بلفظ «كالمستهزئ بربه» وسندُه ضعيف” اهـ. وقال الحافظُ الشّمسُ السّخاويّ في «المقاصد الحسَنة»: وسندُه ضعيف فيه مَن لا يُعرَف” اهـ وقد رواه ابن عساكر في «تاريخ دمشقَ» مِن نَفْس تلكَ الطّريق.