الحمد لله حمدًا يرضاه لذاته والصلاةُ والسلامُ على سيّدِ مخلوقاته ورضي اللهُ عن الصحابة والآل وأتْباعِهم مِن أهل الشرعِ والحال والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين
اللهم صلِّ صلاةً كاملة وسلّم سلامًا تامًّا على سيدِنا محمدٍ الذي تنحلُّ به العُقد وتنفرِجُ به الكُربَ وتُقضى به الحوائج وتُنالُ به الرغائب وحسنُ الخواتيم ويُستسقى الغمامُ بوجهِه الكريم وعلى آلهِ وصحبه وسلِّم.
لك الحمدُ والفضلُ يا ربَّنا، لك الحمدُ والشكرُ يا ربَّنا
يا ربِّ صلِّ على المصطفى صلاةً تكونُ لنا أمانًا، يا ربّ سلِّم على المصطفى سلامًا يكونُ أمانًا لنا
اللهم اجعل نيّاتِنا وعملَنا خالصًا لوجهِك الكريم في هذا المجلس المباركِ إن شاء الله على مائدةِ السيد أحمد الرفاعي الكبير رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال في برهانِه المؤيّد
“أي سادة، الزهدُ أولُ قدَمِ القاصدينَ إلى الله عز وجل وأساسُه التقوى وهي خوفُ الله رأسُ الحكمة”
بعدَ أنْ بيّنا في مجالسَ خلَت معنى الزهدِ بعدَ ذلك ننتقلُ في هذا المجلس إنْ شاء اللهُ تعالى إلى هذه المقالةِ من كلامِ أبي العلمينِ الغوثِ الرفاعيّ رضي الله عنه وأساسُه التقوى هي خوفُ الله رأسُ الحكمة.
أساسُ الزهدِ التقوى، فإنّ الذي يتقي اللهَ عز وجل يحمِلُه ذلك على الزهدِ في الدنيا، الزهدُ بمعنى قِصَرِ الأمل والزهدُ بمعنى قطعِ النفسِ عنِ الاسترسالِ في الملذاتِ والمآكلِ والمشارب فأساسُ الزهدِ تقوى الله
تقوى الله: الخوفُ من الله، رأسُ الحكمةِ الخوفُ من الله، رأسُ الحكمةِ مخافةُ الله.
بين الزهدِ والتقوى والخوفِ من الله والحكمة يقَدِّمُ الإمامُ أحمدُ الرفاعيِّ رضي الله عنه هذا المعنى ليَختصرَهُ في هذه الكلمة “أساسُه التقوى” أي أساسُ الزهدِ التقوى وهي خوفُ الله.
تقوى الله معناه أداءُ الواجبات واجتنابُ المحرمات، أنْ نؤدّيَ ما افترَضَ اللهُ عز وجل علينا وأنْ نجتنِبَ ما حرّمَ اللهُ تعالى علينا، فهذه التقوى وهذا الباعثُ له الخوفُ من الله وهذا شأنُ أهلِ الحكمة وهذه هي الحكمة بل رأسُ الحكمة.
الحكمةُ عبادَ الله أنْ نخافَ من الله، وإذا كان الخوفُ من اللهِ عز وجل في نفوسِنا حمَلَنا ذلك على تقوى الله، وإذا اتّقَيْنا الله زهِدْنا في هذه الدنيا.
ومن تقوى اللهِ عز وجل أن نتعلمَ ما افترضَ اللهُ تبارك وتعالى علينا من علمِ الدين.
كلمةُ التقوى ما أخفَّها على اللسان، ما أثقلَها في الميزان
الخوفُ منَ الجليل العملُ بالتنزيل الاستعدادُ ليومِ الرحيل، هذه تقوى الله يا أهلَ التقوى.
أنْ أتّقي الله معناه أني أخافُ الله فإذا خِفتُ اللهَ عز وجل عملتُ على أداءِ ما أوْجبَ خالقي ومولايَ عليّ وتجنّبتُ ما حرّمَهُ اللهُ سبحانه وتعالى عليّ.
ومن الواجبات أنْ نتعلمَ ما فرضَ اللهُ علينا مِن علمِ الدين
كيف نعرفُ الواجب وكيف نعرفُ المحرّم إذا لم نتعلّم؟
لا بدّ من العلم، لا بدّ لنا أنْ نجلسَ في مجالس العلماء، أن يكونَ لنا عنايةٌ خاصة وهذا شأنُ الصوفية وشأنُ السادةِ الرفاعية وهذا شأنُ المريدينَ والسالكينَ من أبناءِ الطريقةِ الرفاعية ومن أبناء الطريقة الصوفية.
لا يليقُ بنا أنْ نكونَ على جهلٍ في أمرِ الدين، كيف نعرفُ ما أحبَّ الله؟ كيف نعرفُ ما أحبَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ كيف نعرفُ ما أمرَ اللهُ سبحانه وتعالى وما نهى؟ كيف نعرفُ ذلك إلا بالعلم؟
قبل أنْ نشتغلَ بالأوراد وبالخلَوات، قبل ذلك الأساسُ أنْ نتعلمَ علمَ الدين
أساسُ ذلك أعلاهُ أوْجبُه أرْفَعُه أفضلُه أنْ نتعلمَ معنى الإيمانِ بالله عز وجل.
يقولُ الحبيبُ محمد صلى الله عليه وسلم “أفضلُ الأعمالِ إيمانٌ باللهِ ورسولِه”
فهذا أفضلُ الأعمال أنْ نتعلمَ توحيدَ الله.
سنرى إن شاء الله تعالى فيما يلي من كلامِ الإمامِ الرفاعيِّ في برهانِه المؤيد كيف كانت عنايتُه كبيرةً بأمرِ التوحيد.
فإذًا أساسُ الزهدِ التقوى، والتقوى خوفُ الله وهذا هو رأسُ الحكمة.
كان يقولُ الإمامُ الرفاعيُّ رضي الله عنه “الزهدُ أساسُ الأحوالِ المَرْضيّة والمراتبِ السّنِية وهو أولُ قدَمِ القاصدينَ إلى اللهِ عز وجل والمُنْقَطِعينَ إلى الله والراضينَ عن الله والمتوكلينَ على الله”
أولُ قدمِ القاصدينَ إلى الله الذين يقصِدونَ مرضاةَ الله والذين انقطعوا إلى الله أي انقطعوا عن هذه الدنيا الفانية وعن ملذاتِها قادَهم إلى ذلك خوفُهم من الله والتقوى لله فزهِدوا فأعانَهم ذلك على أنْ يزدادوا في العبادة.
ولذلك كان شيخُ الرفاعيةِ في زمانِه شيخُنا الشيخُ عبدُ اللهِ الهرريُّ رحمه اللهُ تعالى يقول “مَن ثبتَ على التقوى لا بدّ أنْ يصيرَ وليًّا”
لماذا؟ لأنّ اللهَ تعالى يحبِّبُ إليه الطاعة، العبادة تصيرُ لذةً عندَه تفوقُ لذةَ الطعامِ والشراب، لذةٌ كبيرةٌ في قلبِ هذا العبد، يتلذذُ عندما يُطيعُ اللهَ عز وجل فينقطِعُ عن الاسترسال في المطاعمِ في المشارب في الأثاث بل وفي كلِّ ما يشغَلُه عن الله.
ينقطعُ إلى الله يتركُ كلَّ ما يَشغَلُه عن الله عز وجل ويكونُ في حال الرضا عن الله {رضيَ اللهُ عنهم ورَضُوا عنه}[البينة/٨]
الرضا عنه التسليمُ لله عز وجل، الرضا عن الله التسليمُ بقضاءِ الله وقدرِه، الرضا عن الله أنْ لا نتسخّطَ على الله عز وجل في كلِّ أحوالِنا أُعطِينا أو مُنِعْنا وُسِّعَ علينا أو ضُيِّقَ علينا، وُلِدَ لنا أو مات لنا، في كلِّ أحوالِنا نحن في حال الرضا عن الله عز وجل ونحن في حال التوكلِ على الله، لأنّ يقينَنا أنّ كلَّ ما يجري بمشيئةِ اللهِ عز وجل وبتقديرِ اللهِ تبارك وتعالى، الحلوُ والمرُّ بتقديرِ الله وبمشيئةِ الله، الخيرُ والشر بتقديرِ الله وبمشيئة الله، الطاعةُ والمعصية بتقديرِ الله وبمشيئةِ الله لكنّ اللهَ تعالى يأمرُ بالطاعة وينهى عن المعصية، يحبُّ اللهُ الطاعة ولا يحبُّ المعصية، يحبُّ اللهَ الخير ولا يحبُّ اللهَ الشر ولكنّ كلَّ ذلك بمشيئةِ الله وبتقديرِ الله.
الرضا عن الله: يسلّم هذا العبد لله سبحانه وتعالى، إذا استقرّت هذه المعاني في نفسِك أيها المؤمن، في نفسِك أيها الصوفي، في نفسِك أيها الرفاعي، فعندَ ذلك أنتَ مُنطلِقٌ في مقاماتِ التقوى، عندها تترَقّى، فإذا ثبَتتَ على ذلك وصلْتَ ولا وصلَ إلا على الأصول، وصلتَ إلى أنْ تصيرَ حبيبًا لله عز وجل، إلى أنْ تصيرَ من أولياءِ الله وعندها قلبُك ليس متعلِّقًا بالأسباب التي حولَك، ليس متعلّقًا بكثرةِ أتْباع، ليس متعلّقًا بمدحٍ أو بذمّ، قلبُكَ مُلْتَفِتٌ إلى رضا الله هل ربي رضيَ عني أم لا.
كان يقول أبو العلمين شيخُ العريْجاء مُقَبِّلُ اليدِ الشريفة أحمدُ الرفاعي
“كم طيَّرَتْ طقْطَقةُ النِّعالِ حولَ الرجالِ مِن رأسٍ وكم أذْهبَت مِن دين”
طقطقة النعال حول الرجال: كثرةُ الأتباع، ينظر هذا حولَه يقول أتباعي صاروا كثرة لوْلا أني على حالٍ عالية ما كان لي هذا العددُ من الأتْباع، فاتَه كم كان من طقطقةِ نعالٍ حولَ رجالٍ قبلَه، أردتَ أن تصيرَ شيخَ زاوية شيخ طريقة؟
لا تسعَ إلى مرضاةِ الناس، لا تجعل همّكَ كم حولَك من الرجال لا تجعل همّتَك منصرِفة إلى عدد الرجالِ الذين حولَك.
ليست العبرة بطقطقةِ النعال فإنّ طقطقةَ النعالِ -وقد ضربَ هذا المثل وما أعظم بيانَه رضي الله عنه- النعال الذي هو تحت ماذا أذهبَت؟ أذهبَت ما هو فوق وهو الرأس
هذا التحت طقطقةُ النعال أذهبَت هذا الرأس، النعلُ في أسفِك والرأسُ في أعلاك فاحذرْ أنْ يُذهِبَ رأسَك ما في قدميْك
إياك وطقطقةَ النعال لا تبالِ، ليست العبرة بكثرة الأتْباع
كم من أهلِ الضلال حولَهم أتباعٌ كثير، بعضُهم حولَه ملايين من الناس، ليست العبرةُ بذلك.
لذلك كما كان يقول الإمامُ الفضَيلُ بنُ عياض رضي الله عنه “إذا أردتَ أنْ تسلكَ فلا يَغُرّنكَ كثرةُ الهالكينَ وقلةُ السالكين”
لا تقل كقولِ بعض الناس اليوم: لكنْ أنا لا أرى أتْباعًا كثيرا في هذا الطريق، أولًا عدمُ رؤيتِك عدمُ وِجدانِكَ لا يستلزِمُ العدَم، هذا أمر
والأمر الثاني: مَن قال بأنّ الأمرَ بكثرةِ الأتْباع؟ {وما أكثرُ الناسِ ولوْ حرَصْتَ بمؤمنين}[يوسف/١٠٣]
ليست العبرة بكثرةِ الأتباع العبرةُ بموافقةِ الحق، فإذا أردتُ أنْ تسلك سيكثرُ حولَك الشياطين، سيكثرُ حولَك مَن يزيِّنُ لك أنْ تتركَ طريقَ الحق وأنْ يلتفِتَ قلبُكَ إلى عوالِقِ الدنيا.
بعضُ الناس عندما يُرى الحق ويُرى الدليل فبعدَ ذلك يأتيه مَن يُشَوِّشُه فيلْتَفِتُ لهؤلاء، بعضُهم ماذا يقول؟ لكنْ هذا الطريق الذي أنت تريدُ أنْ تسلك كم فيه من الرجال؟ انظر كثير من الناس يَعيبونَ هذا الطريق
إذا كان هذا الطريقُ طريقَ محمد فلا تُبالِ يا مَن تشتاقُ للقاءِ محمد
كم طيّرَت طقطقةُ النعالِ حول الرجالِ من رأسٍ وكم أذهبَت من دين.
كان الإمامُ الرفاعيُّ رضي الله عنه إذا رأى على فقيرٍ جُبّةُ صوف وهذا رمزٌ للصوفية، رمزٌ للزهد، يقول “يا ولدي، انظرْ بزِيِّ مَن تزَيَّيْتَ وإلا مَن قد انتَسَبتَ” هذا زيٌّ كبير أنتَ تعرف بهذه الخرقة؟ أنت تنتسب إلى الأكابر
“يا ولدي انظر بزيِّ مَن تزَيَّيْتَ” تقول أنا رفاعي أنا قادريّ وأنا شاذلي وأنا بدوي وأنا نقشبندي لكنّ هذا الزيّ كان زيَّ هؤلاء الأكابر فاحفظْهُ
فانظر بزيِّ مَن تزيّيتَ وإلى مَن قد انتسبتَ لبِستَ لِبسةَ الأنبياء الصوف والخشن من الثياب، لبِستَ لِبسةَ الأنبياء وتحلّيْتَ بحِليةِ الأتقياء، هذا زيُّ العارفينَ فاسلُك فيه مسالكَ المُقرَّبين وإلا فانزَعه.
كان الإمامُ الرفاعي رضي الله عنه لا يُجازي قط السيئةَ بالسيئة وهذا من حال التقوى وكان يقول “لا يحصلُ للعبدِ صفاءُ الصدرِ حتى لا يبقى فيه شىءٌ من الخَبَث”
سلامةُ الصدر، لا يكونُ في صدرِه الغِلُّ لإخوانِه ليس عنده الحسد
بعضُ مَن ينتسبُ إلى الطريق ولعله يصيرُ شيخَ زاوية إذا رأى شيخًا آخرَ حولَه أتباعٌ كثير يحسُدُه ثم يبدأُ بالكذبِ والافتراءِ عليه حتى ينفَضُّ الناسُ من حولِ ذلك الشيخ إليه.
هذا صدرُه ليس سليمًا، هذا يفرِّق ويمزِّق
الطريقُ واحد كلُّنا نجتمعُ تحت رايةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أيًّا كانت طريقتُنا أيًّا كان مذهبُنا ضمنَ مذهبِ أهلِ السنةِ والجماعة شافعيةً كنا أو مالكيةً أو حنفيةً أو حنابلةً، ما دمنا في طريقِ أهلِ السنةِ والجماعة الطريقُ واحد وإن اختلَفت المذاهبُ الفقهية والعقيدةُ واحدة فلماذا يكونُ في قلبِ أحدِنا في الطريق الغلُّ على أخيه والحسدُ لأخيه؟
صفاءُ الصدرِ علامةُ الصوفي.
كان رضي الله عنه يقول “طريقي دينٌ بلا بدعة”
هذه رسالة سيدنا أحمد ونحن لا نزال نبيّنُ معنى التقوى بمقالِ الإمامِ أحمد وبحالِه.
يقول “طريقي دينٌ بلا بدعة” وهذا هو طريقُ الصوفية، إذا كان هناك بدعة مما تُخالفُ مما جاءَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذا ليس طريقَ الصوفية.
إنْ كنتَ معنا فاتْبَعْنا واصبرْ على الحبِّ معنا وإنْ تسأل عن ذِي المعنى، هذا طريقُ الصوفية.
طريقُ الصوفية ليس طريقَ بدعٍ تخالفُ طريقَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
هذا الرفاعي رضي الله عنه يقول “طريقي دينٌ بلا بدعة وعملٌ بلا كسل”
همة في العمل جد في العمل بلا كسل ونيةٌ بلا فساد
الصدقُ في حُسنِ النيةِ خيرُ الصفاتِ المَرضيّة.
سلامة صدر، صفاء، نية صافية هكذا الصوفي
نيّتُه صافية لله عز وجل يحبُّ الخير يكونُ ذا همةٍ في نُصرةِ الدين في الدفاعِ عن الدين في الدفاعِ عن مذهبِ أهل السنةِ والجماعة، نيّـتُه صافية، نيةٌ بلا فساد وصدقٌ بلا كذب، وحالٌ بلا رياء.
حالُ الصادقين من غيرِ أنْ يقعَ في القلبِ رياء.
فالمعاني التي ذكرْناها من الخوفِ من الله والزهد والتقوى والحكمة والعمل والإخلاص والصدق هذه أحوالُ الصادقين أحوالُ الرفاعيين أحوالُ الصوفيةِ السالكين أحوالُ المُقْتَدينَ بالنبيِّ الكريم محمد عليه الصلاة والسلام
اللهم إنا نسألك التقى والنّقى والعفافَ والغنى والعملَ الصالحَ الذي ترضاه
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أنْ لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوبُ إليك
سبحان ربِّك ربِّ العزةِ عما يصفون وسلامٌ على المرسلين
والحمدُ لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابهِ الطيبين الطاهرين