بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدًا يرضاه لذاتِه والصلاةُ والسلام على سيدِ مخلوقاتِه
ورضي الله عن الصحابة والآل وأتباعِهم من أهل الشرع والحال
والسلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين
اللهم صلِّ صلاةً كاملة وسلِّم سلامًا على سيدِنا محمدٍ الذي تنحلُّ به العقد وتنفرجُ به الكرب وتُقضى به الحوائج وتُنالُ به الرغائب وحسنُ الخواتيم ويُستسقى الغمامُ بوجهِه الكريم وعلى آلِه وصحبِه وسلِّم
نسألُ اللهَ تبارك وتعالى أنْ يجعلَ نياتِنا في هذا الوقت المبارك إن شاء الله خالصةً لوجهه الكريم
في مجلسِ أحمدَ الرفاعي رضي الله عنه الإمام الزاهد مع قولِه في البرهان المؤيّد
“أي سادة، الزهدُ أولُ قدَمِ القاصدينَ إلى الله عز وجل وأساسُه التقوى وهي خوفُ الله رأسُ الحكمة”
الزهدُ أولُ قدمِ القاصدينَ إلى الله تعالى، هذه الكلمة التي قالها الإمامُ أحمدُ الرفاعي في بيانِ حالِ الزهد وفي بيانِ حالِ مَن يطلبُ الولاية ونحنُ نطلبُ مرضاةَ الله عزّ وجل ونطلبُ من الله أنْ نكونَ من أوليائِه وأصفيائه، أن نكونَ ممن يُحبُّهمُ اللهُ
قد بيّنا في مجالسَ خلَت بعضًا من معاني الزهد وفي هذا المجلسِ وفي هذه الرياض التي أسألُ اللهَ أنْ تكونَ من رياضِ الجنة نُكملُ في هذه المعاني العظيمة بالزهد
قال ابنُ خفف رحمه الله “علامةُ الزهدِ وجودُ الراحةِ في الخروجِ من المال”
هذه علامةٌ للزهد، وجودُ الراحة، لا يكون معكَ مال وتكون مرتاحًا، لستَ في همٍّ
بعضُ الناس تقول له لمَ أنتَ في همّ؟ لمَ أنتَ لستَ مرتاحًا؟
يقول أنا ليس معي مال وأنا أفكّرُ كيف أحَصِّلَ المال.
من علامات الزهد أنْ تجدَ الراحةَ في الخروجِ من المال.
لذلك تجد الزاهدين يسارعونَ للإنفاقِ في سبيل الله.
رجلٌ كان في بغداد، كان أولَ أمرِه مشغولًا بمالِه عندَه قصر وجوارٍ وأموالٍ كثيرة وكان مشغولًا بها، جاءَه ذاتَ يوم أحدُ المجاذيب ومعه دفّ، هذا الرجل في أعلى القصر وهذا المجذوبُ الزاهد في أسفلِ القصر ضربَ له على الدف نظرَ إليه وقال: كلَّ يومٍ تتلوَّن غيرُ هذا بكَ أجمل
أعطاه هذا المعنى، كلَّ يومٍ تتلوّن، ألوان من النعيم الذي أنتَ تتقلبُ فيه،
غيرُ هذا بك أجمل: أجملُ لك أنْ تكونَ على غيرِ هذا الحال
ما هو؟
أنْ تزهَدَ وأنْ تخرجَ من مالكَ الذي أنت فيه
كما قال السيدُ الرفاعي “الزهدُ أولُ قدمِ القاصدينَ إلى الله”
هذا الرجل كان في بغداد نزلَ من قصرِه انخلعَ من مالِه جعلَه كلَّه في سبيل الله ثم ترك الناس وذهبَ حتى صار في الصحراء زهِدَ خرجَ من مالِه وجدَ راحةَ القلب صار من أولياءِ الله
الزهدُ سُنُوُّ القلبِ عن الأسباب، سنُوُّ القلب أي خُلُوُّ القلب المعنى ألا تجعلَ قلبَك معلَّقًا بالأسباب، لا يعني أنك لا تأخذ بالأسباب يعني أنْ لا تتعلق بالأسباب، لا تكونُ دائمَ الفكرِ في هذه الأسباب ولماذا لم تأتِني ولماذا تأخّرَت عليَّ متى سيصير معي مال متى سيصير عندي كذا وكذا من متاع الدنيا؟؟؟
قلبُك لا يتعلقُ بتلك الأسباب
الزهدُ سنُوُّ القلبِ عن الأسباب ونقصُ الأيدي عن الأملاك، يتصدّق بهذا المال الذي عنده
يقولُ الجنيد البغدادي رضي الله عنه “الزهدُ خلُوُّ القلبِ عما خلَت منه اليد”
خلَت يدُكَ من المال لكنْ أيضًا خَلا قلبُك عن التعلّقِ بالمال
أما لو كانت خلَت يدُكَ من المال لكنْ قلبُك مشغولٌ بالمال هذا ليس زهدًا
فالزهدُ خُلُوُّ القلبِ عما خلَت منه اليد
قال أيضًا رحمه الله “خُلوُّ اليدِ من المِلك والقلبِ منَ التتَبُّع”
أي أنه كما أنَّ يدَك قد خلَت من هذا المتاع فكذلك قلبُك لا يتتبَّعُ هذا المال
وقيل أيضًا: الزهدُ عُزوفُ النفسِ عن الدنيا بلا تكلّف
عزوفُ النفسِ عن الدنيا: نفسُك ليست ملهوفةً للدنيا، لا تفكر في الدنيا ومِن غير تكلّف نفسُك عزَفَت عن الدنيا لأنها دنيا
وانظروا عاقبةَ ذلك “مَن صدقَ في زهدِه أتَتْهُ الدنيا راغِمة”
أنْ تزهَد في الدينا تأتيكَ راغِمة، تأتيكَ صاغِرة
إذا أخرجْتَ حبَّ الدنيا من قلبِك
قال أبو سليمانَ الدارانيّ “الصوفُ -أي لبسُ الصوف- علَمٌ من أعلامِ الزهد”
نعم الصوفي لبِسَ الصوفَ على الصفا، فلا ينبغي أنْ يلبسَ صوفًا بثلاثةِ دراهم وفي قلبِه رغبةٌ بخمسةِ دراهم
تلبسُ ثوبًا، هذا الثوب بثلاثةِ دراهم ولكن القلب فيه الرغبة أنْ يكونَ الثوب بخمسةِ دراهم أين الزهدُ في ذلك؟
لقد اختلفَ السلفُ في الزهد فقال سفيانُ الثوري وأحمدُ بنُ حنبل وعيسى بنُ يونس رحمهمُ اللهُ تعالى، وغيرُهم، “الزهدُ في الدنيا إنما هو قِصَرُ الأمل”
هذا من معاني الزهد
لا يعيش وهو يُؤمِّل أعيشُ كذا وكذا من السنين ثم هذا لأولادي ثم هذا لأولادِ أولادي، طولُ الأمل
وهذا الذي قالوهُ يُحمَلُ على أنّه من أماراتِ الزهدِ والباعثةِ عليه والمعاني المُوجبةِ له
يقولُ عبدُ الواحد بنُ زيد وهذا من الأكابر رضي الله عنه كان زاهدًا كبيرًا
“الزهدُ تركُ الدينارِ والدرهم”
وقال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه “الزهدُ تركُ ما يشغلُ عن اللهِ تعالى”
كلُّ ما يشغَلُكَ عن اللهِ تعالى فاترُكْه.
وحقيقةً هذه مرتبةٌ عاليةٌ في الزهدِ أنْ تتركَ كلَّ ما يشغَلُكَ عن الله
انظر الذي أنتَ فيه ما هو الذي يشغَلُكَ عن الله اترُكه حتى تكونَ زاهدًا
ما أعظمَ هذا المعنى!!!
إنْ كنتَ في بيتِك عندَك زيادةٌ في أثاثٍ يشغَلُك عن طاعةِ الله اترك هذا
كل ما هو زائد اتركه فهذا من الزهد.
سألَ رُوَيْمٌ الجنيدَ البغداديَّ رحمه الله عن الزهدِ فقال له الجنيدُ البغدادي وهو إمامُ الصوفية
“هو اسْتِصغارُ الدنيا ومَحْوُ آثارِها من القلب”
أنْ تستصغرَ الدنيا، هذه الدنيا صغيرة، هذه الدنيا متاعُها قليل فأنا أنظرُ إليها على أنها صغيرة وأمحو آثارَ هذه الدنيا من قلبي.
قال السرِيُّ السقَطيّ رحمه الله “لا يطيبُ عيشُ الزاهدِ إذا اشتغلَ عن نفسِه ولا يطيبُ عيشُ العارفِ إذا اشتغلَ بنفسِه”
يقول أبو عثمان رحمه الله “إنّ اللهَ تعالى يُعطي الزاهدَ فوقَ ما يريد”
اللهُ يعطي الزاهدَ فوقَ ما يريد وهو لا يبالي لأنه ينظرُ إلى الدنيا على أنه صغيرة
“إنّ اللهَ تعالى يعطي الزاهدَ فوق ما يريد ويعطي الراغبَ دونَ ما يريد”
أما الراغبُ في الدنيا كلَّما طلبَ أكثر وعملَ أكثر سيأخذُ أقلّ
يعطي الراغبَ -أي في الدنيا- دون ما يريد
فإذا كان حالُ الزاهدِ وقد أعطاه اللهُ فوقَ ما يريد وحالُ الراغبِ وقد أعطاه اللهُ دونَ ما يريد ويعطي المستقيمَ موافقةَ ما يريد
قيل لبعضِهم ما معنى الزهد في الدنيا؟ قال تركُ ما فيها على مَن فيها
تتركُ ما في هذه الدنيا بيدِ أهلِها فأنا ماذا أريدُ فيها.
قال رجلٌ لذي النون المصري رحمه الله متى أزهدُ في الدنيا؟ قال “إذا زهِدتَ في نفسِكَ”
إذا صرتَ زاهدًا في نفسِك صرتَ زاهدًا في الدنيا.
قال محمدُ بنُ الفضل رحمه الله “إيثارُ الزّهادِ عندَ الاستِغناء -إذا استغْنى آثَرَ- وإيثارُ الفتيانِ عندَ الحاجة”
قال اللهُ تعالى {ويُؤثِرونَ على أنفسِهم ولو كان بهم خَصاصة}(الحشر/٩)
شأنُ الصوفيةِ الإيثار، شأنُ الرفاعيةِ الإيثار
هكذا شأنُ طرقِ الصوفية.
قال الكتّاني “الشىءُ الذي لم يُخالِفْ فيه كوفيٌّ ولا مدَنيٌّ ولا عراقيٌّ ولا شاميٌّ الزهدُ في الدنيا وسخاوةُ النفسِ والنصيحةُ للخلق”
هذه الثلاثة، الزهدُ في الدنيا وسخاوةُ النفس، أُعطي وأنا لستُ متضايقًا لا أعطي وأنا قابض.
والنصيحةُ للخلق، الدينُ النصيحة، لذلك مع هذه الأحوال من الزهدِ وسخاوةِ النفس تنصحَ يا صوفيّ خلقَ الله، ابذُل النصيحةَ لهم علِّمْهم علمَ الدين علّمهمْ ما افترضَ اللهُ تعالى عليهم اؤمرْ بالمعروف انْهَ عن المنكر علِّمهم توحيدَ الله اقتَدِ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يعلِّمُ أينما ذهبَ صلى الله عليه وسلم.
هذه الأشياء الثلاثة: الزهد، السخاوة والنصيحة.
لا يقولُ أحد لا شامي ولا عراقي ولا أحد يقول إنها غيرُ محمودة
وقال بشرٌ الحافي الزاهد العابد رحمه الله “الزهدُ ملِك لا يسكنُ إلا في قلبٍ مُخَلّى”
الملِك له سكَن، والزهد له سكَن، أين يسكنُ هذا الزهد الذي هو ملِك؟
في القلب المُخَلّى الذي خلَا من حبّ الدنيا ومن التعلّقِ بها.
الزهدُ ملِكٌ لا يسكنُ إلا في قلبٍ مُخَلّى.
اسمعوا بمَ أجابَ بعضُهم عندَما قيل له لمَ زهِدْتَ في الدنيا؟ فقال لزُهدِها فيَّ وهي ماذا أعْطَتني، زهِدَتْ فيَّ فأنا زهِدتُ فيها
وقال محمد بنُ محمد بنِ الأشعث البِيكَنْديُّ رحمه الله “مَن تكلّمَ في الزهدِ ووعظَ في الناسِ ثم رغِبَ في مالِهم رفعَ اللهُ حبَّ الآخرةِ من قلبِه”
إذا تكلمتَ أيها الواعظ أيها الداعية أيها المدرّس واعظًا ناصحًا ولكنْ نظرُك وقلبُكَ في المالِ الذي في يد الناس يرفَعُ اللهُ تعالى حبَّ الآخرة من قلبِك، نعوذُ بالله من ذلك.
أستحضرُ هنا قولَ الإمامِ ابنِ الجوزي وحالَه رحمه الله وقد كان واعظًا كبيرًا، كان إذا وعظَ أبكى، مجلسُه بعضَ الأحيان يحضُره مائةُ ألف يتساقطُ الناسُ من البكاء وما أعجبَه وله كلامٌ عظيمٌ جدًّا في التصوّف.
فذاتَ مرة وهو يعظ صار يبكي فقيل له ما يُبكيك؟ قال نظرتُ إليكم فرأيتُ بكاءَكم ونظرتُ إلى نفسي فقلتُ فكيفَ بي وبكم إذا جيءَ بي وبكم يومَ القيامة وأنتم سمعتم وعظي ونصحي فبَكَيتمْ فكيف بي إذا كنتُ مُرائيًا فماذا يكونُ حالي أمامَكم يومَ القيامة؟
قيل إذا زهِدَ العبدُ في الدنيا وكّلَ اللهُ تعالى به ملَكًا يغرِسُ الحكمةَ في قلبِه.
اللهُ تعالى يُوَكِّلُ ملَكًا من ملائكة الله يغرِسُ الحكمةَ في قلبِ مَن زهِدَ في هذه الدنيا
مراتب الزهد:
الزهدُ أولُ قدمِ القاصدينَ إلى اللهِ عز وجل
جزاكَ اللهُ خيرًا يا سيدي يا أحمدَ الرفاعي وأنتَ تأخذُ بأيدينا وتعلّمُنا أولَ الطريق فإنْ لم نضعْ أقدامَنا على أولِ الطريق فنحنُ بعيدون
هذا الزهد له مراتب، وقد ذكرتُ أحمدَ الرفاعي فكيف بكم بالصوفي الكبير أحمدَ بنِ حنبل رضي الله عنه؟
يقول الإمامُ أحمدُ بنُ حنبل “الزهدُ على ثلاثةِ أوْجُه: الأول تركُ الحرام وهو زهدُ العوامّ -أن تتركَ الحرام هذا زهدُ العوام وهو فرضٌ علينا أنْ نتركَ الحرام- والثاني تركُ الفُضولِ من الحلال -الشىء الذي زادَ عن حاجتِنا لا نحتاجُه- يقول أحمد: وهو زهدُ الخواص- نتدرّج
إذًا: زهدُ العوام، ثم زهدُ الخواص، الثالث تركُ ما يشغلُ العبدُ عن اللهِ تعالى وهو زهدُ العارفين”
زهدُ العوام، زهدُ الخواص ثم زهدُ العارفين
هذه مراتبُ الزهد.
يقول الأستاذ أبو عليّ الدقاق رضي الله عنه “قيل لبعضِهم لمَ زهِدتَ في الدنيا؟ قال: لما زهِدَ فيَّ أكثرُها أَنِفْتُ منَ الرغبةِ في أقَلِّها”
أكثرُها زهِدَ فيّ فأنا أنِفْـتُ اسْتَنْكفْتُ من الرغبةِ حتى في أقلِّها.
زهدَت فيك ازهد فيها.
يقولُ يحيى بنُ مُعاذ “الدنيا كالعروس ومَن يطلبُها ماشطَتُها والزاهدُ فيها يُسَخِّمُ وجهَها ويَنتِفُ شعرَها ويخرقُ ثوبَها والعارفُ مُشتغِلٌ باللهِ تعالى لا يلتفِتُ إليها”
لا يلتفتُ إلى هذه الدنيا التي تزيّنَت كالعروس.
عن أبي العباس سهلِ بنِ سعدٍ الساعديّ رضي الله عنه قال “جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسولَ الله دلَّني على عملٍ إذا عمِلتُه أحبَّني الله وأحبَّني الناس، فقال صلى الله عليه وسلم “ازهدْ في الدنيا يُحبَّك الله وازهدْ فيما عندَ الناس يُحبَّك الناس” حديثٌ حسن رواه ابنُ ماجه وغيرُه بأسانيدَ حسنة.
النبيُّ صلى الله عليه وسلم نصحَه، هذا الرجل استرشَدَ، ما الذي سألَ عنه؟
سألَ عن عملٍ هذا العمل إذا عملَه أحبّه الله، اللهم اجعلنا ممن تحب
وأحبَّه الناس. وصيّتان عظيمتان أولاهُما ازهد في الدنيا
عندما نقول دنيا ما معنى الدنيا؟ من حيثُ اللغة الدنيا هي الأرضُ وما عليها من جمادٍ ونباتٍ وحيوانٍ وتطلّعٍ على المذموم ومن الأعيانِ والأعمال وهذا هو المرادُ هنا والمعنى أعرضْ عنها ولا تسعَ خلفَها
ازهدْ في الدنيا أعرض عن الدنيا ولا تسعَ خلفَها ولا تبالِ بإقبالِها وإدبارِها إذا أقلبَت عليك أو أدبرَت لا تبالِ
فالصوفيُّ لا يُتعبُه طلب ولا يُزعِجُه سلب، لا تُبالِ بإقبالِها وإدبارِها
{لكيلا تأْسَوا على ما فاتَكم ولا تفرحوا بما آتاكم واللهُ لا يحبُّ كلَّ مختالٍ فخور}(الحديد/٢٣)
ولا تبالِ بإقبالِها وإدبارِها واشتغِلْ فيها بما يَعنيكَ وبما يُعينُك على التعظيمِ لأمرِ الله والشفقةِ على خلقِ الله.
وفي صحيح مسلم أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرّ بالسوق والناسُ كنَفيْه فمَرَّ بِجَديٍ أسَكَّ ميِّت فتناولَه فأخذَه بأُذُنِه فقال أيُّكم يحبُّ أنّ هذا له بدرهم؟ فقالوا وقد سألَهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الجديِ الأسَكِّ الميِّت، فقال أيُّكم يحبُّ أنْ هذا له بدرهم؟ فقالوا ما نحبُّ أنه لنا.
يعني هذا هو جديٌ ميّتٌ أسَكّ، قالوا ما نحبُّ أنه لنا بشىء وما نصنعُ به؟
قال “أتحبونَ أنه لكم؟ قالوا: واللهِ لو كان حيًّا لَما رغِبْنا به لأنه أسَكّ فكيف وهو ميّت؟ فقال صلى الله عليه وسلم واللهِ لَلدنيا أهونُ على اللهِ مِن هذا عليكم”
فمعنى الزهدِ في الشىء الإعراضُ عنه لاستقلالِه واحتقارِه وارتفاعِ الهمةِ عنه.
فالزهدُ هو عُزوفُ النفسِ عن متاعِ الدنيا مع القدرةِ عليه لأجلِ الآخرة، وإنْ شئتَ قلتَ: الزهدُ إسقاطُ الرّغبةِ فيها بالكُلفة
وما هي ثمرةُ الزهد؟
ثمرةُ الزهدِ القناعة، منها بما لا بدّ منه للتزوّدِ للعُقبى واغتنامِ الوقتِ والجَهدِ لعِمارةِ الآخرة.
نسْتَقِلُّ من الدنيا وننظرُ لها أنها صغيرة ليَعظُمَ نظرُنا إلى الآخرة فمَن عرَف قدْرَ الدنيا وعرَف صَغارَها وتقلُّبَها مع ذلك واسْتِحْوَاذَها في جَهدِ طالِبِها وشَغْلِها لكلِّ وقتِه معَ نعومةِ ملْمَسِها ونقاعة سمِّها ولكانت له نفسٌ تسمو إلى المعالي وتحبُّ الارتفاعَ عن السفاسفِ أعرضَ عنها ولو باشرَها بيدِه واسْتحْقرَها وجعلَها خلفَ ظهرِه واشتغلَ بخدمةِ مولاه الكريم أي بطاعةِ الله عزّ وجل وبالعملِ للباقية فهذا هو الزاهد
يقول السيد أحمدُ الرفاعيّ الكبير رضي اللهُ عنه “لا أقولُ لكم انقطعوا عن الأسباب عن التجارة عن الصَّنعة ولكنْ أقولُ لكم انقطِعوا عنِ الغفلةِ والحرامِ في كلِّ ذلك”
“لا أقولُ لكم أهْمِلوا الأهل ولا تلبَسوا الثوبَ الحسَن ولكنْ أقولُ لكم إياكم والاشتغالَ بالأهلِ عن الله عن طاعةِ الله وإياكم والزهوَ بالثوبِ على الفقراءِ من خلقِ الله، وأقول لا تُظهروا الزينةَ فوقَ ما يلزَمُ بثيابِكم تنكسِرْ قلوبُ الفقراء وأخافُ أنْ يُخالِطَكمُ العُجبُ والغفلة”
فالذمُّ الواردُ للدنيا ليس راجعًا لزمانِها وهو الليلُ والنهار ولا لمكانِها وهو الأرض ولا إلى ما يحتاجُه العبادُ للمَعايش فإنّ القيامَ به فرضُ كفايةٍ كما هو معلوم، ولا إلى الكسبِ من الحلال مع حُسنِ النية
ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “نِعمَ المالُ الصالحُ للرجلِ الصالح” رواه الإمامُ أحمدُ وغيرُه.
فقد كان سيدُنا عثمانُ بنُ عفان رضي الله عنه تاجرًا وعبدُ الرحمنِ بنُ عوف رضي الله عنه تاجرًا وعبدُ اللهِ بنُ المبارك رضي الله عنه تاجرًا فمَن أخذَ لله وتركَ لله فهو زاهد، ولو تركَ العبدُ جميعَ ما في الدنيا لغيرِ وجهِ الله لم يكن زاهِدًا
فالذمُّ إنما يرجِعُ إلى الاشتغالِ بما في الدنيا عما خُلِقنا لنؤمَرَ به من عبادتِه تعالى والتذللِ له والإقبال على خدمتِه -أي طاعتِه- وعلى هذا قال سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم “إنّ اللهَ إذا أحبَّ عبدًا حماهُ الدنيا كما يظَلُّ أحدُكم يحمي سَقيمَه الماء” رواه الترمذيُّ وابنُ حبانَ والحاكمُ وصححه.
وفي روايةٍ له “إنّ اللهَ لَيَحمي عبدَه الدنيا وهو يحبُّه كما تحمونَ مريضَكمُ الطعامَ والشرابَ تخافونَ عليه”
وعند التفصيل فعباراتُ السلف الصالح تُرجِعُ الزهدَ إلى أمورٍ ثلاثة هي فروعٌ عن قوةِ التوكلِ واليقين والثقةِ بالله، هذه الثلاثة.
التوكلُ على الله واليقينُ والثقةُ باللهِ تعالى، ترجعُ أمورُ الزهدِ إلى هذه الأمور الثلاثة أولُها أنْ تشهدَ بقلبِك عقدًا وذوْقًا في مختلِف أحوالِك أنّ رزقَك لا يأكلُه غيرُك وأنْ لا يسوقَهُ حِرصُ حريصٍ ولا يرُدَّه كراهيةُ كارهٍ بل هو بيدِ الله ضمِنَ اللهُ تعالى لعبادِه أرزاقَهم وتكفّلَ بها كما قال سبحانه وتعالى
{وما مِن دآبّةٍ في الأرضِ إلا على اللهِ رزقُها}(هود/٦)
وكما قال سبحانه وتعالى {فابتغوا عندَ اللهِ الرزقَ واعبُدوه}(العنكبوت/١٧)
ومَن شهِدَ ذلك حصلَ له غِنًى في القلب فاعتمدَ على الله وامتنعَ من طلبِ الدنيا بالأسبابِ المكروهة والنياتِ الوضيعة، هذا أوّلُها.
وثانيها أنْ يكونَ العبدُ إذا أُصيبَ بمصيبةٍ في دنياه من ذهابِ مالٍ أو ولدٍ أو غيرِ ذلك أرغبَ في ثوابِ ذلك مما ذهبَ منه في الدنيا أنْ يبقى له، وهذا أيضًا ينشأُ من كمالِ اليقينِ في الدعاء.
عندما ندعو ونسألُ اللهَ عز وجل فنقول اللهم إنا نسألُكَ منَ اليقين ما تهوِّنُ به علينا مصائب الدنيا فهذا هو اليقين، وهذا الدعاءُ المرفوع ورد عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ورواه النسائيُّ في الكبرى وهو من علاماتِ الزهدِ في الدنيا ومما يدلُّ على قلةِ الرغبةِ فيها
كما روى البيهقيُّ في الشعبِ عن عليٍّ رضي الله عنه قال “مَن زهِدَ في الدنيا هانتْ عليه المصيبات”
وثالثُها أنْ يستويَ عندَ العبدِ حامدُه وذامُّه في الحقّ فلا يُبال بمَن مدحَه أو ذمّه فلذلك تجدُه لا يحيدُ عن الحق لحَمدٍ ولا لذمّ، وهذا من علامات الزهدِ في الدنيا فلا يسألُ ولا يبالي يستوي عنده مدحُ الناسِ وذمُّهم، فهذا من علاماتِ الزهدِ في الدنيا واحتقارِها وقلةِ الرغبةِ فيها فإنما مَن عظُمَت الدنيا عندَه اختارَ المدحَ وكرِه الذم وحملهَ ذلك على تركِ كثيرٍ من الحقّ خشيةَ الذمّ وعلى فعلِ كثيرٍ من الباطل رجاءَ المدح
كان أبو عليٍّ الدقاق رحمه الله يقول “الساكتُ عن الحق شيطانٌ أخرس”
وأما مَن كان قلبُه مُمتلِئًا بمحبةِ الخالق وما فيه رضاه مقَدِّمًا له على الدنيا وما فيها استوى عندَه المدحُ والذمُّ في الحقّ فصارَ كما روى هنّادٌ في الزهدِ والبيهقيُ في الأربعينَ الصغرى عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال “اليقينُ ألا تُرضيَ الناسَ بسخطِ الله”
فهذا من علاماتِ اليقين وهو من شأنِ الزاهدين.
عباراتُ السلف تدورُ في الزهدِ على هذه الأمورِ الثلاثة
كقولِ الزهريِّ رحمه الله في تعريفِ الزاهد “مَن لم يغلِب الحرامُ صبرَه -ليس بسببِ الرغبةِ في المال يمدُّ يدَه إلى الحرام ولا يصبرُ على حبسِ نفسِه عن الحرام- ولم يشغل الحلالُ شُكرَه”
فإذا رزقهُ اللهُ تعالى من الحلال لم يشغلْه ذلك الحلال عن شكرِ الله تبارك وتعالى
وكقولِ أحمدَ “الزهدُ في الدنيا قِصَرُ الأمل واليأسُ مما في أيدي الناس”
وكقولِ إبراهيمَ بنِ أدهم رحمه الله فيما رواه البيهقيُّ في الشعبِ وفي الزهد
“الزهدُ ثلاثةُ أصناف: فزهدٌ فرضٌ -وهو الزهدُ في أنْ تتركَ الحرام- وزهدٌ فضل -فيما فضلَ عن حاجتِك- وزهدٌ سلامة، فأما الزهدُ الفرضُ فالزهدُ في الحرام والزهدُ الفضْلُ الزهدُ في الحلال والزهدُ السلامة الزهدُ في الشبُهات”
يُفهَمُ مما ذكرناه في لطيفِ معاني الزهدِ وفي بيانِ قولِ إمامِنا الزاهدِ أحمدَ الرفاعيِّ الكبير رضي الله عنه “الزهدُ أولُ قدَمِ القاصدينَ إلى اللهِ تعالى” أنّ الزهدَ من المقاماتِ العليّة والحالاتِ البهية لأنه جُعلَ سببًا لمحبتِه تعالى وأما مَن علَّقَ قلبَه بالدنيا بعُدَ عن اللهِ تعالى كما جاء في حديث الحاكم وصحّحه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم “منْ أحبَّ آخرَتَه أضرَّ بدنياه ومَن أحبَّ دنياهُ أضرَّ بآخرتِه فآثِروا ما يبقى على ما يفنَى فهما ضرَّتان لا ترضى إحداهما إلا بإسخاطِ الأخرى”
وكان الفاروقُ عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه يقولُ في خُطبتِه
“إنّ الطمعَ فقرٌ وإنّ اليأسَ غِنى وإنّه مَن أيِسَ مما عندَ الناس استغنى عنهم”
رواه ابنُ المبارك في الزهد.
وفي حديث الترمذي وابنِ ماجه وابنِ حبانَ والحاكم وصححَه عن الصوفيِّ الكبير أبي هريرةَ رضي الله تعالى عنه قال “تَلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:{ مَن كان يريدُ حَرثَ الآخرةِ نَزِدْ له في حَرثِه ومَن كان يريدُ حرثَ الدنيا نؤتِه منها وما له في الآخرةِ من نصيب}[الشورى/٢٠]”
ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم “يقولُ اللهُ عز وجل ((ابنَ آدم تفرَّغْ لعبادتي أملأ صدرَك غنى وأسُدَّ فقرَك وإنْ لا تفعل ملأْتُ صدرَك شُغلًا ولم أسُدَّ فقرَك))”
وفي حديثِ أحمدَ والحاكم مرفوعًا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم “حُلوةُ الدنيا مرّةُ الآخرة ومُرّةُ الدنيا حُلوةُ الآخرة وإذا حلَّ حبُّ الدنيا في قلبٍ زاحَ محبةَ الخالقِ تعالى فيه فلم يتفرّغ للسيرِ إلى الآخرة بالانشغالِ بتعظيمِ الربِّ وطاعتِه ولم يَذُقْ ذَواقَ العارفين أما الدنيا طريقُ مسافرٍ إلى دارِ القرار فاشتغلَ بالتّكثرِ من متاعِها الذي هو مُفارِقُه عن التخفُّفِ منها وغفَلَ عن كونِ كلِّ مَن في الدنيا ضيفًا وما في يدِه عاريّة والضيفُ مُرتحِل والعاريّةُ مردودة”
اللهم اجعلنا على طريقِ أوليائكَ الصالحين ومن عبادك الزاهدين وأمِدَّنا بأمداد النبيّ الكريم وبمددِ أحمدَ الرفاعي الكبير رضي اللهُ تعالى عنه
سبحانك اللهم وبحمدك نشهدُ أنْ لا إله إلا أنت نستغفركَ ونتوبُ إليك
سبحان ربِّك ربِّ العزةِ عما يصفون وسلامٌ على المرسلين
وصلى الله على سيدِنا محمد وعلى آلِه وأصحابِه الطيبين الطاهرين.