الحمد لله حمدًا يرضاه لذاتِه والصلاة والسلام على سيدِ مخلوقاته ورضي الله عن الصحابة والآل وأتباعِهم من أهل الشرع والحال والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين
أشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له وأنّ محمدًا عبدُه ورسولُه وأنّ عيسى عبدُ الله وابنُ أمَتِه وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه وأنّ الجنةَ حق وأنّ النارَ حق.
اللهم صلِّ صلاةً كاملًة وسلِّم سلامًا تامًّا على سيدِنا محمدٍ الذي تنحلُّ به العقد وتنفرجُ به الكرب وتُقضى به الحوائج وتُنالُ به الرغائبُ وحسنُ الخواتيم ويُستسقى الغمامُ بوجههِ الكريم وعلى آله وصحبهِ وسلِّم.
مجلسٌ مبارك إنْ شاء اللهُ تعالى من مجالس أبي العلمين شيخِ العريجاء مقَبِّلِ اليدِ الشريفة سيدِنا الشيخ أحمدَ الرفاعي الكبير رضي الله تعالى عنه وأرضاه وأمدَّنا بمدده.
يقول الإمامُ أحمدُ الرفاعي في البرهان المؤيد “عاملوا اللهَ بالتقوى وعاملوا الخلقَ بالصدقِ وحُسنِ الخلُق، عاملوا أنفسَكم بالمخالفة وقِفوا عند الحدود وأَوْفُوا بعهدِ اللهِ إذا عاهدتم، وقال سبحانه {وما آتاكمُ الرسولُ فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}[الحشر/٧] إياكم والكذبَ على الله والخلقِ الدينُ عملٌ بالأوامر واجتنابٌ عن النواهي وخضوعٌ وانكسارٌ في الأمريْن العملُ بالأوامر يُقرِّبُ إلى الله والاجتنابُ عن النواهي خوفٌ من الله، طلبُ القُربِ بلا أعمالٍ مُحالٌ وأيُّ مُحال، الخوفُ مع الجرأةِ فضيحة اطلبوا تقوى الله بمتابعةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، إياكم وسلوكَ طريقِ الله بالنفسِ والهوى فمَن سلكَ الطريقَ بنفسِه زلَّ مِن أولِ قدم”
يحثُّنا الإمامُ الرفاعيُّ رضي الله عنه بعد تقوى الله على الصدق، معاملةُ الخلقِ بالصدق وبحسنِ الخلق ويَحثُّنا على معاملةِ النفس بمخالفتِها، {وأما مَن خافَ مقامَ ربِّه ونَهى النفسَ عن الهوى فإنّ الجنةَ هي المأوى}[النازعات/٤٠] ويحثُّنا كذلك على أنْ نقفَ عندَ حدودِ الشريعة.
أما في الصدقِ فإنّ اللهَ تعالى يقول {يآأيها الذين آمنوا اتّقوا اللهَ وكونوا معَ الصادقين}[التوبة/١١٩] وهذه الآيةُ الكريمة قد استدلَّ بها بعضُ أكابرِ علماءِ أهلِ السنةِ والجماعة على أنّ الإجماعَ حجةٌ في الدين لأنّ اللهَ تعالى أمرَنا أنْ نكونَ مع الصادقين وعلماءُ أهلِ السنةِ والجماعة همُ الصادقون هذا وإنّ اللهَ تبارك وتعالى لا يجمعُ أمةَ محمدٍ على ضلالة، فجعلَ اللهُ تعالى إجماعَ هذه الامة حجةً في الدين {يآ أيها الذين آمنوا اتّقوا اللهَ وكونوا مع الصادقين}[التوبة/١١٩]
أهلُ الصدق أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، الصديق أبو بكر رضي الله عنه، الفاروقُ عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه، ذو النورين عثمانُ بنُ عفان رضي الله عنه، الإمامُ الكرّار ابنُ عم النبيِّ المختار الإمامُ عليّ بنِ أبي طالب رضي الله عنه، وبقيةُ العشَرةِ المبشرين وكبارُ أصحابِ المصطفى صلى الله عليه وسلم والذين اتّبعوهُ ونصروه ودافعوا عن دينِه وجاهدوا في الله لإعلاءِ كلمةِ لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ الله، هؤلاء أهلُ الصدق، الأئمةُ الأربعة الشافعي ومالك وأحمد وأبو حنيفة ومجتهدو أمةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أهلُ الصدق
الإمامُ أبو الحسنِ الأشعريّ وأبو منصور الماتريدي أهلُ الصدق، البخاري مسلم النسائي الترمذي أبو داود ابنُ حبان وغيرُهم من حراس علمِ الحديث النبوي الشريف أهلُ الصدق.
الحسنُ البصريّ الجنيد البغدادي الإمامُ الرفاعي الإمامُ الجيلاني الإمام البدوي الإمامُ الشاذلي الإمام الدسوقي الشيخُ المكاشفيّ أولياءُ الله، الصوفية الحقة أهلُ الصدق
{يآأيها الذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا معَ الصادقين}[التوبة/١١٩] نسألُ اللهَ أنْ نُحشَرَ مع أهلِ الصدق مع الصديقين مع هؤلاء العلماء والعارفين والأولياء المقبولين ومع أصحابِ المصطفى صلى الله عليه وسلم الطيبين الطاهرين.
عن عبد اللهِ بنِ مسعود رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال “لا يزالُ العبدُ يصْدُقُ ويتَحرَّى الصدقَ حتى يُكتبَ عندَ اللهِ صدّيقًا ولا يزالُ يكذِبُ ويَتحرّى الكذبَ حتى يُكتبَ عند اللهِ كذّابًا”
يا سادة، الصدقُ عمادُ الأمر وبه تمامُه وفيه نظامُه فأولئك مع الذين أنعمَ اللهُ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُنَ أولئكَ رفيقًا.
الصادق هو الاسمُ اللازمُ من الصدق والصدّيق المبالَغةُ منه ولذلك سُمّيَ أبو بكرٍ رضي الله عنه الصدّيق الذي جاء بالصدق وصدّقَ به.
الإكثارُ من الصدق، الذي يكونُ الصدقُ غالب أحوالِه، صدقٌ مع الله صدقٌ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم صدقٌ معَ العلماء والصالحين صدقٌ يا صوفيُّ مع إخوانِك الفقراءِ والمساكين مع إخوانك المسلمين، صدقٌ مع نفسِك.
أقلُّ الصدقِ استواءُ السرِّ والعلانية والصادقُ مَن صدقَ في أقوالهِ، فمَن الصدّيق؟ مَن صدقَ في جميعِ أقوالِه وأفعالِه وأحوالِه.
يقولُ أحمد بنُ خضرَويْه “مَن أرادَ أن يكونَ اللهُ تعالى معه فلْيَلزَم الصدق فإنّ اللهَ مع الصادقين”
إنّ الله مع الصادقين بحفظِهم ونصرتِهم وتأييدِهم وإعطائِهم المدد فيكونون محفوظينَ بحفظِ الله تبارك وتعالى.
اللهُ مع الصادقين واللهُ مع الصابرين واللهُ مع المتقين يحفظهُم ينصرُهم يُمِدُّهم يفتحُ أبوابَ الخيرِ في طريقِهم يجعلُهم مفاتيحَ للخير مغاليقَ للشر.
هذه معِيّةُ اللهِ تعالى الخاصة التي يجعلُها اللهُ تعالى لأهلِ الصدق واللهُ سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن أنْ يكونَ ساكنًا في مكان.
ليس معنى معيّةِ اللهِ عز وجل للصادقين والصالحين الصابرينَ أنّ اللهَ تعالى يكونُ معهم بذاتِه في مكان فإنّ الحقَّ سبحانه منزّهٌ عن الزمان ومنزَّهٌ عن المكان لا يحُلُّ في مكان لا يحُلُّ في أرضٍ هي مكان ولا في سماءٍ هي مكان ولا يحُلُّ في جسدِ إنسان وليًّا كان أو كائنًا مَن كان، فاللهُ منزَّهٌ عن الزمان والمكان.
{لا تحزَن إنّ اللهَ معنا}[التوبة/٤٠] بحفظِه بمددِه بنُصرتِه، مَن صدقَ في هذا الطريق لقيَ المدد.
الصدقُ سرٌّ للصوفيّ لمَن أرادَ أنْ يسلُكَ طريقَ الصوفية، إنْ كنتَ معنا فاتْبَعْنا واصبرْ على الحبِّ معنا وإنْ تسأل عن ذي المعنى هذا طريقُ الصوفية.
قال أبو سليمانَ الداراني رحمه الله “لو أرادَ الصادقُ أنْ يصفَ ما في قلبِه ما نطقَ به لسانُه”
قلوبٌ مليئةٌ بالصدق وكأني بكلِّ جزءٍ لطيفٍ من قلبِ هؤلاء الصادقين ينبِضُ بالصدق، لو أرادَ هذا الصادق أنْ يصفَ ما في قلبِه من الصدق ما نطقَ لسانُه بذلك
وقيل كذلك بالصدق القولُ بالحقِّ في موطنِ الهلَكة
وقيل الصدقُ هو موافقة السر النطق، أنْ تقولَ الحق فتكونَ صادقًا في أشدِّ الأحوال في أصعبِها في مواطنَ قد تكونُ فيها الهَلَكة لكنك لا تتنازلُ عن الصدقِ فيها.
والصدقُ نطقُكَ ما تنطقُ به موافقٌ للذي لم تنطِق به مما هو في سرِّك.
يقولُ عبدُ الواحدِ بنُ زيد رضي الله عنه “الصدقُ الوفاءُ لله عز وجل بالعمل {وأَوْفوا بعهدِ اللهِ إذا عاهدتُم}[النحل/٩١]”
نَفي بأعمالِنا بأنْ تكونَ أعمالُنا صالحة فإنّ هذا هو الصدق، أنْ نصوم ونصلي ونحجّ ونزكّي، أن نأمرَ بالمعروف وننهى عن المنكر، أنْ ندافعَ عن دينِ الله أنْ نعلِّمَ علمَ أهلِ السنةِ والجماعة، أنْ نعلِّمَ عقيدةَ المصطفى صلى الله عليه وسلم ونبذُلَ فيها النفسَ والولدَ والمالَ هذا هو الصدق.
قال سهلُ بنُ عبدِ الله رحمه الله “لا يشَمُّ رائحةَ الصدقِ عبدٌ داهنَ نفسَه أو غيرَه”
المُداهنة ليست من أحوالِ الصادقين، المداهنة هي الموافقةُ على الباطل، المداهَنة عدمُ إنكارِ المنكرات، المداهنة السكوتُ عن الحق
يقولُ أبو عليٍّ الدقاق رحمه الله “الساكتُ عن الحقّ شيطانٌ أخرس”
الصوفيُّ الصادق لا يُداهِن بل يُدارِي، فرقٌ يا صوفي بين المُداراةِ والمداهنة، أما المداهنة فما قدّمتُ وهي مذمومة أما المداراة فمطلوبة في محلِّها، معاملةُ الناسِ بحكمة لجلبِ منفعة ودَرءِ مفسَدة. الصادق يُداري ولكنْ لا يُداهن، لا يسكتُ عن قولِ الحق، إذا سمعَ منكرًا أو رأى منكرًا فإنه لا يسكت لا يجعلُ همَّه مرضاةَ الناس وهو يُغضِبُ ربَّ الناس، الصوفيُّ إذا رأى مَن يحاربُ دينَ الله أو يغشُّ المسلمينَ في دينِهم لا يسكت، لا يجعلُ في الميزانِ عنده قُربَ أو بعدَ هذا الإنسان منه لا ينبغي أنْ يتركَ الحقّ والصدقَ مخافةَ الناس أو رجاءَ منفعةٍ خاصةٍ به.
أيها السادة، أيها الرفاعية، أكثرُ مَن يعملُ بالصدقِ هم أهلُ الله. والرفاعيةُ شأنُهم شأنُ الصوفيةِ الصادقين على الصدق لا يسكتونَ على المنكرات إذا رأوا مَن يدّعي المشيخة أو يدّعي العلم أو يدّعي الصوفية ولكنه يُسيءُ إلى الطريق، يُسيءُ إلى الصوفية، بل يسلكُ مسلكًا يُنفِّرُ الناسَ ويُبعِدُهم عن طريقِ الصوفية وعن طريقِ أهلِ الله، لا يسكت، ينصح فإنْ لم تُقبَل نصيحتُه يُحذِّر التحذيرَ الشرعيَّ الواجب.
وهكذا كان شيخُ طريقتِنا أحمدُ الرفاعي رضي الله عنه في مجالسِه يبذُلُ النصيحة ثم مَن لم يقبَلْها كان يعمل بمقتضى الحكمِ الشرعي فيُحذِّرُ التحذيرَ الشرعيَّ الواجب بالاسمِ يذكر احذروا فلان واحذروا الجماعة الفلانية التي تكذِبُ على الله تكذبُ على رسول الله تكذبُ على أولياء الله.
من الصدقِ أنْ نعلّمَ الفرضَ العيني -ما افترضَ اللهُ تعالى علينا- وإذا رأينا مَن هو جاهلٌ بذلك ننصحُه لا نُداهنُه فيما هو فيه من الجهل بل نُعلِّم وننصح.
لا يشَمُّ رائحةَ الصدقِ عبدٌ داهنَ نفسَه أو غيرَه.
يقول أبو سعيدٍ القرشي رحمه الله “الصادقُ الذي يتهيّأُ له أنْ يموتَ ولا يستحي من سرِّه لو كُشِف” لأنه صادق لو مات لا يخشى أنْ ينكشفَ سرُّه لأنه كان صادقًا
حالُ الصدقِ والصادقين من كلامِ أحمدَ الرفاعي الكبير رضي الله تعالى عنه مما أوصى به ونصحَ به إخوانَه وأحبابَه وطلابَه ومريديه في برهانه المؤيد.
اللهم أمدَّنا بمددِ النبيِّ الكريم النبيّ الطاهرِ الزكي سيدِ الأولين والآخرين إمامِ الصادقين وإمام الصابرين وإمام المتقين سيدِنا محمد صلى الله عليه وعلى آلِه وأصحابِه الطيبين الطاهرين ورضي الله عن أحمدَ الرفاعي والأولياء والصالحين وجمعَنا اللهُ تعالى بهم وحشَرَنا في زمرتِهم مع أهل الصدقِ والصادقين.
ربنا تقبّل منا إنك أنت السميعُ العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم
ربنا آتنا في الدينا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذابَ النار وأدخلنا الجنة مع الأبرار
سبحانك اللهم وبحمدك نشهدُ أن لا إله إلا أنت نستغفرُك ونتوبُ إليك سبحان ربِّك ربِّ العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدِنا محمد وعلى آله وأصحابِه الطيبين الطاهرين.