الحمد لله حمدًا يرضاه لذاتِه والصلاة والسلام على سيدِ مخلوقاتِه ورضي الله عن الصحابة والآل وأتباعِهم من أهلِ الشرع والحال والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين
اللهم صلّ صلاةً كاملة وسلم سلامًا تاما على سيدِنا محمد الذي تنحلُّ به العقد وتنفرجُ به الكرب وتُقضى به الحوائج وتُنالُ به الرغائب وحُسنُ الخواتيم ويُستسقى الغمام بوجهِه الكريم وعلى آله وصحبه وسلِّم
نسألُ اللهَ تبارك وتعالى أن يجعلَ نيّاتِنا وأعمالَنا خالصةً لوجهِه الكريم، ربنا تقبل منا إنك أنت السميعُ العليم.
وعلى مائدةِ الإمام الغوثِ أحمدَ الرفاعيِّ الكبيرِ رضي الله عنه في برهانِه المؤيد يقول “وأوّلُ طريقِ المتابَعة حُسنُ القُدوة عملًا بحديثِ “إنما الأعمالُ بالنيات”
ألا تروْنَ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كيف قال لرجلٍ قال له يا رسولَ الله رجلٌ يريدُ الجهادَ وهو يبتغي عرَضًا من الدنيا، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم “لا أجرَ له” فأعظمَ ذلك الناسَ فقالوا للرجل: عُدْ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فلعلّك لم تفهمْه، فقال الرجلُ يا رسولَ الله رجلٌ يريدُ الجهادَ في سبيلِ الله وهو يريدُ مِن عرَضِ الدنيا، فقال عليه الصلاة والسلام “لا أجرَ له” فأعظمَ ذلك الناسُ وقالوا عد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الثالثة: رجلٌ يريدُ الجهادَ في سبيل الله وهو يبتغي مِن عرضِ الدنيا فقال “لا أجرَ له” رواه الثقاتُ وصحّحوه.
فمِن هذا ومثلِه علِمْنا أنّ نتائجَ العملِ تَحسُنُ وتَقْبُحُ بالنية فعاملوا اللهَ بحُسنِ النيات واتّقوه في الحركات والسكَنات، هذا الذي قاله أحمدُ الرفاعي رضي الله عنه في البرهان المؤيد.
النيةُ الصادقة
ينبغي أنْ لا يقصُدَ العبدُ بالعملِ توَصُّلًا إلى عرَضٍ من أعراضِ الدنيا منْ مالٍ أو رئاسةٍ أو جاهٍ أو ارتفاعٍ على أقرانِه أو ثناءٍ عند الناس أو صرفِ وجوهِ الناسِ إليه أو نحوِ ذلك.
قال اللهُ تعالى {مَن كان يريدُ حَرثَ الآخرةِ نَزِدْ له في حرثِه ومَن كان يريدُ حَرثَ الدنيا نُؤتِه منها وما له في الآخرة من نصيب}[الشورى/٢٠]
وقال تعالى {مَن كان يريدُ العاجِلةَ عجّلْنا له فيها ما نشآءُ لمَن نريد}[الإسراء/١٨]
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم “مَن تعلّمَ علمًا مما يُبتَغى به وجهُ اللهِ تعالى لا يتعلَّمُه إلا ليُصيبَ به عرَضًا من الدنيا لم يجدْ عرْفَ الجنةِ يومَ القيامة” رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح. ومثلُه أحاديثُ كثيرة
معناه ما كانت نيّتُه خالصةً للهِ تعالى وهو يتعلمُ العلم غرضُه من العلمِ الدنيا كان مُرائيًا لم يجد عَرْفَ الجنة -أي رائحتَها- يومَ القيامة.
وعن أنس وحذيفةَ وكعبِ بنِ مالكٍ رضي الله عنهم أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال “مَن طلبَ العلمَ لِيُمارِيَ به السفهاء أو يُكاثِرَ به العلماء أو يصرفَ به وجوهَ الناسِ إليه فلْيَتَبوّأ مقعدَه من النار” رواه الترمذيُّ من روايةِ كعبِ بنِ مالك وقال أدخلَه اللهُ النار.
وليس المعنى أنّ مَن وقعَ في معصيةِ الرياء يكونُ كافرًا بل يكونُ واقعًا في معصيةٍ كبيرةٍ فإنْ لم يعفُ اللهُ تعالى عنه عذبَه بها في النار.
في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “إنما الأعمالُ بالنيات وإنما لكلِّ امرىءٍ ما نوى” هذا الحديثُ من أصولِ الإسلام
قال الإمامُ الشافعيُّ والإمامُ أحمدُ رضي الله عنهما يدخلُ فيه ثلثُ العلم -أي بهذا الحديث-
هذا الحديث يدخلُ في أبوابٍ كثيرةٍ من أمور الدين. الأعمالُ الصالحة هي التي لا تكونُ محسوبةً مُعتبَرةً إلا مع النية، الصلاةُ والصيامُ والحجُّ والزكاةُ والصدقاتُ والإحسانُ إلى الأراملِ والأيتام وبرُّ الوالدين والنفقةُ على الأطفال والنفقةُ على الزوجة والجهادُ في سبيل الله وقراءةُ القرآن الذكرُ، هذه الأعمالُ الحسنة مَن لم يَنوِ ليس له فيها ثواب.
نفقةُ الزوجة إذا كان الزوجُ ينفقُ عليها لأنّها عادةً جرَت على هذا ونفقةُ الأطفالِ إذا كان يفعلُ هذا ويرَبِّيهم لأنّ الناس يفعلونَ هذا ولم ينوِ لله تعالى ليس له ثوابٌ في نفقَتِهم، وكذلك تعبُه ليس له ثوابٌ فيه إلا أنْ ينويَ في قلبِه نيةً حسنة يعقدُ في قلبِه أنا أنفقُ على أطفالي وعلى زوجتي لأنّ اللهَ أمرَني بذلك
ما دامَ على هذه النية يكونُ له ثوابٌ على تعبِه وإنفاقِه أما إذا لم ينوِ ليس له ثوابٌ مهما تعب.
كذلك قارىءُ القرآنِ إذا لم ينوِ التقرّبَ إلى الله بقراءةِ القرآن ليس له ثواب.
كذلك الذكرُ والتهجدُ بالليل إذا لم ينوِ التقرّبَ إلى الله -بدونِ رياء-
ليس له ثوابُ الصائم إذا لم ينوِ التقربَ إلى الله، وهذا الصيامُ ما استفادَ منه شيئًا إلا الجوعُ والعطش كذلك قارىءُ القرآنِ إذا لم ينوِ التقربَ إلى الله بقراءةِ القرآن ليس له ثواب، هذا معنى الحديث “إنما الأعمالُ بالنيات” ليس معناه أنّ مَن نطقَ بالكفرِ لا يُعَدُّ كافرًا إلا أنْ ينويَ كما قال بعضُ مَن حرّفَ الدين، قالوا والعياذُ بالله الذي تكلّمَ بالكفر لا يُعَدُّ كافرًا ما لم ينوِ بكلامِه الكفر، وكلامُهم هذا تكذيبٌ للدين
لماذا؟ الكفرُ والمعاصي تُكتَبُ إنْ فعلَها الشخصُ بإرادةٍ إنْ نوى وإنْ لم ينوِ لكنْ فعلَها بإرادة ولو كان مازحًا فنطقَ بالكفر وهو لا يعتقدُ ما يقولُه لكنه بإرادتِه يُكتبُ عند الله والعياذُ بالله كافرًا خارجًا من دين الإسلام.
هذا شرعُ الله فلْيُحذَرْ هؤلاء الذين يقولون إنّ كلماتِ الكفر لا تكونُ محسوبةً على الشخصِ لا يكفُرُ إلا أنْ يكونَ ناويًا، وهذا كذبٌ وقائلُه مكذِّبٌ للدين.
الكفرُ والمعاصي تُكتَبُ على الشخص أو جادًّا وإنْ كان لا يعتقدُ بقلبِه ما يقول كما قال ذلك بلسانِه مازحًا فالذي يقولُ كلمات الكفر يخرجُ من الدين والذي يقولُ المعصية تُكتَبُ عليه معصية ولو لم يكن قد نوى
قال: إنما الذي لا يُكتَبُ عليه قولُ الكفرِ وقولُ المعصيةِ هو الذي ينطقُ بلا إرادة هو الذي ينطقُ بلا إرادة كالنائم والشخص المدهوش الذي سبقَ لسانُه إلى المعصية أو إلى الكفرِ منَ الدهشة كأنْ خرَجَتْ منه بلا إرادةٍ مِن شدةِ الفرح، كالرجل الذي ذكر الرسولُ صلى الله عليه وسلم أنه كان في سفرٍ فأضاعَ راحلتَه والتي عليها طعامُه وشرابُه، فبينما هو تحت ظلِّ الشجرة إذ وجدَها قادمةً عندَه ففرحَ أرادَ أنْ يحمَدَ الله، أرادَ أن يقول اللهم أنت ربي وأنا عبدُك فسبقَ لسانُه فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربُّك، هذا لم يكفر لأنه ما أرادَ أنْ يقولَ هذه الكلمةَ بالمرة بل أرادَ أنْ يقولَ الكلمةَ التي هي حمدٌ لله
فحديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم “إنما الأعمالُ بالنيات” معناه الأعمالُ الحسنةُ لا تكونُ مقبولةً إلا بالنية.
أكثرُ الناسِ لا ينوونَ هذه النية، ينوونَ ألا يقولَ الناسُ عنهم أنهم لا يُرَبّونَ أولادَهم ولا يُحسِنونَ إلى أزواجِهم كما هو مرغوبٌ عند الناس، فإنْ كان نوى أنْ يمدحَه الناس وهو الرياء هذا يكسِبُ إثمًا كبيرًا.
فإذًا يوجدُ نيّتان: نيةٌ ضروريةٌ للعمل كنيةِ الصلاة أو الصيامِ أو الحج أو الزكاةِ، والتي معناها أنْ يعقِدَ قلبَه على هذا العمل، هذه النيةُ ضرورية
أما نيةُ التقربِ إلى الله فهي ليست شرطًا لصحةِ العمل إنما هي شرطٌ لنَيلِ الثواب.
لأهميةِ ما ذكرناه ذكر إمامُنا الرفاعي رضي الله عنه التذكيرَ بالنية وبهذا الحديث في مقدمةِ البرهان المؤيد “إنما الأعمالُ بالنيات”
نحنُ الآنَ في مجلس العلم إنْ جلسْنا عادةً ولم نستحضِرْ طلبَ الأجرِ والثوابِ من الله ما حصّلْنا الثواب، أما إذا قلنا في نفوسِنا نحن نطلبُ الثوابَ من الله، وليس شرطًا أنْ نُجرِيَ لفظًا بعيْنِه بل المقصودُ أنْ نجعلَ في قلوبِنا أننا نطلبُ بهذا العلم الصالح مرضاةَ الله أو نيلَ الثوابِ من الله عز وجل
“إنما الأعمالُ بالنيات” العملُ الصالحُ يفتقرُ إلى النية حتى يكونَ مقبولًا عند الله.
إذًا ليس المراد بهذا الحديث أيُّ عمل، ليس المراد المعصية ليس المراد السرقة ليس المراد شربُ الخمر ليس المراد الكفر بالله ثم بعد ذلك يقول أنا ما نويتُ بالسرقة إلا أنْ أُطعِمَ الفقراء، وما نويتُ بشربِ الخمر إلا أنْ يذهبَ عقلي لأني في كدَرٍ شديد، هذا ليس مقبولًا منه وليس موضعَ الحديث.
فمعنى الحديثِ “إنما الأعمالُ بالنيات” الأعمالُ الصالحة تفتقرُ إلى النية حتى تكونَ مقبولةً عند اللهِ عز وجل وذلك في كلِّ عملٍ من الأعمالِ الصالحة، حتى في إلقاءِ السلامِ على إخوانِنا، حتى في تشميتِ العاطس، حتى في ذِكرِنا وعندما نذكرُ الله وحتى في صلاتِنا وصيامِنا وزكاتِنا وحجِّنا (رزقَنا اللهُ الحج) وهكذا في كلِّ عملٍ صالح إذا أردْنا أنْ نُحصِّلَ الثواب فلا بدّ لنا -أي مع الإتيانِ بالأركان والشروط- لا بد لنا كذلك من أنْ نجعلَ نيّتَنا خالصةً لله تعالى، وهذا الذي قصدَهُ إمامُنا الإمامُ أحمدُ الرفاعيُّ الكبير رضي الله تعالى عنه وأرضاه عندما ذكّرَنا بالنية.
وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال “إنما يُعطى الرجلُ على قدْرِ نيّتِه” وعن غيرِه “إنما يُعطَى الناسُ على قدْرِ نيّاتِهم” وهذا الكلامُ مشهورٌ جدا عند الناس وابنُ عباسٍ قاله وغيرُه من العلماء.
كم نيّتُكَ خالصة لله، الآنَ تطلبُ العلمَ وتحضرُ في مجالس العلم تجعلُ نيّتَك خالصةً لله، على قدرِ نيّتِك تُعطى.
يقولُ الأستاذُ أبو القاسم القشيريُّ رحمه الله “الإخلاصُ إفرادُ الحقِّ في الطاعةِ بالقصدِ” وهو أنْ يريدَ بطاعتِه التقرّبَ إلى اللهِ تعالى دونَ شىءٍ آخر من تصنُّعٍ لمخلوقٍ أو اكتسابِ محمَدةٍ عند الناس أو محبةٍ أو مدحٍ من الخلق أو معنًى من المعاني سوى التقرّبَ إلى الله تعالى
قال “ويصحُّ أن يقال الإخلاصُ تصفيةُ الفعلِ عن مُلاحظةِ المخلوقين” أنا أعملُ هذا العمل لا أنظرُ بعد ذلك إلى ملاحظةِ المخلوقين، حسبي إنْ عملتُ ما يُرضي ربي ونيتي خالصةٌ لله فبعدَ ذلك لا أسأل هل لكم ملاحظةٌ على هذا؟ لا ألتفت، تصفيةُ الفعل عن ملاحظةِ المخلوقين هذا يذمُّني وهذا يقول لو أنك ما فعلت، أنتَ مخلص صفِّ فعلَك عن ملاحظةِ المخلوقين ما دامَ قصدُك لله نيتُك لله عملُك صالح فلا تلتفت إلى ملاحظة المخلوقين.
عن حذيفةَ المَرْعَشِيِّ رحمه الله تعالى قال “الإخلاصُ استواءُ أفعالِ العبدِ في الظاهرِ والباطن”
وعن ذي النون المصري رحمه الله تعالى قال “ثلاثٌ من علاماتِ الإخلاص: استواءُ المدحِ والذمِّ منَ العامة، ونسيانُ رؤيةِ العملِ في الأعمال واقتضاءُ ثوابِ الأعمالِ في الآخرة -يستوي عنده المدحُ والذم ولا يدخل إلى قلبِه عجب، يعملُ وهو يتّهمُ نفسَه ويُخلِصُ نيّتَه لله وماذا ينتظر؟ ينتظرُ ثوابَ الله في الآخرة
لمّا أخلصَ إمامُنا الرفاعي وهو في القرن السادس الهجري رفع اللهُ تعالى له علَمًا إلى يومِ القيامة، بقيَ ذكرُه عندما رجا ثوابَ ربِّه ولم يتلفت إلى ملاحظة الناس.
عن سهلٍ التستريِّ رحمه الله قال “نظرَ الأكياسُ في تفسيرِ الإخلاص فلم يجدوا غيرَ هذا أن تكونَ حركتُه وسكونُه في سرِّه وعلانِيَتِه للهِ تعالى وحدَه لا يُمازِجُه شىء لا نفسٌ ولا هوًى ولا دنيا” قلبُه صافٍ لله حتى يعرفَ أنّ نيّتَه خالصة وأنه غيرُ مُراءٍ لم يُخالِج نيّتَه في قلبِه هوًى.
وعن السريِّ رضي الله تعالى عنه قال “لا تعملْ للناسِ شيئًا ولا تترك لهم شيئًا ولا تعطِ لهم شيئًا ولا تكشِفُ لهم شيئًا” ومرادُه رحمه الله لا تُعطِهم إلا ونيّتُك لله ولا تمنع عنهم ولا تكشف لهم شيئًا معناه إذا أردتَ أن تعطي فلله وإذا أردتَ أن تمنع فلله وإذا أردتَ أنْ تُظهِرَ وتكشف فلله، وإنْ أردتَ أن تكتُمَ وتحجُب فلله.
وعن القشيريِّ رحمه الله قال “أقلُّ الصدقِ استواءُ السرِّ والعلانية”
وعن الحارثِ المُحاسِبيِّ رحمه الله تعالى قال “الصادقُ هو الذي لا يُبالي لو خرجَ عن كلِّ قدْرٍ له في قلوبِ الخلائق من أجلِ صلاحِ قلبِه ولا يحبُّ اطّلاعَ الناسِ على مثاقيلِ الذرِّ من حُسنِ عملِه ولا يكرهُ اطّلاعُ الناسِ على السّيِّءِ من عملِه فإنّ كراهَته لذلك دليلٌ على أنه يحبُّ الزيادةَ عندهم وليس هذا من أخلاقِ الصديقين”
وعن غيرِه “إذا طلبْتَ اللهَ تعالى بالصدق أعطاكَ اللهُ مرآةً تُبصِرُ بها كلَّ شىءٍ من عجائبِ الدنيا والآخرة”
أما المرآة التي تنظرُ فيها عندما تلبسُ ثيابَك وتسَرِّحُ شعرَك فترى فيها الظاهر لكنك إذا كنتَ من أهل الصدقِ والإخلاص يجعلُ اللهُ تعالى لك مرآةً في قلبِك تُبصِرُ بها العجائب يفتحُ اللهُ تعالى عليك.
كان الشيخُ أحمدُ الرفاعي رضي الله تعالى عنه يخرجُ إلى الطريقة ينتظرُ العُميان حتى إذا جاءوا يأخذُ بأيديهم ويقودُهم وكان إذا رأى شيخًا كبيرًا يذهبُ إلى أهلِ حارتِه ويُوصِيهم به وكان رضي الله عنه لا يُجازي السيئةَ بالسيئة بل يعفو ويصفح.
وكان رضي الله عنه يقول “لا يحصلُ للعبدِ صفاءُ الصدرِ حتى لا يبقى فيه شىءٌ من الخبثِ لا لأخٍ ولا لصديقٍ فهناك تأنَسُ به الوحوشُ في غياضِها والطيورُ في أوكارِها ولا تنفِرُ منه وعندَ ذلك تتّضِحُ له الأسرار”
ولا يخفى عليكم بعدَ ذلك كيف أنّ اللهَ تعالى أذلَّ الأسودَ والسباعَ والحيات للإمام الرفاعي وللرفاعية، متى تأنسُ بك الطيور في أوكارِها ولا تَنفِرُ منك؟ متى؟ عندما تكونُ من أهلِ الصدق.
كان الإمامُ الرفاعيُّ رضي الله عنه يقول “أيْشٍ أنت ومَن أنا وأيشٍ قدْري أنا -يقول هذا تواضعًا وإخلاصًا- إنْ صلَحْتُ كنتُ ملّاحًا في سفينة الشيخ منصور الربانيّ قُدِّسَ سرُّه” الشيخ منصور البطائحي رضي الله عنه الذي كان خال السيد أحمد وكان شيخَه ومرَبِّيه
يقول السيد أحمد أنا إنْ صلَحَت أحوالي أنا ماذا أكون؟ كأنه يقول غايةُ ما أكونُ ملّاح، ليس قبطانًا
يقول الإمامُ الرفاعي “الصدقُ سُلَّمُ العناية والتقوى بيتُ الهداية والتسليمُ عينُ الرعاية والإخلاصُ حسنُ الوقاية والانكسارُ لله الولاية”
يقول سيدنا أحمد الرفاعي “ليس من التصوّفِ أحبّوني ولا أكرِموني ولا زوروني”
أخبر الشيخ أبو الفتح الواسطيّ قدّس اللهُ سرَّه وروحَه أنّ شيخَه إمامُ القومِ سيدَ عصرِه المَلاذَ الأجَلّ السيدَ أحمدَ الرفاعي رضي الله عنه قال له يومًا “أي ولدي، ادفِنِ القامة تحت الاستقامة، لتكونَ مستقيمًا ومُتْ عند كلمةِ الحقّ لله تعالى ولا تعْبَأْ بهذه الزخارف الدنيوية واحذرْ أنْ تصُدَّ بها عن الله ولا تتعدَّ حدودَ الله وقِفْ معَ الأوامرِ الإلهية وانصرِفْ عن النواهي وصُمْ عن الأكوان واعلم أنّي رأيتُ جدّي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في أولِ شهرِ رمضان في عالمِ المِثال -أي في المنام- فقال لي: “يا ولدي صُمْ عن الأكوانِ تُعانُ وتُصان وافْنَ عنك -تجرّدْ عن نفسِك- لتصيرَ باقيًا بالله” هذا كلامُه صلى الله عليه وسلم في المنام لولدِه الرفاعي
فاعملْ به واتّقِ اللهَ إنّ اللهَ مع المتقين”.
قال الباز الأشهب الإمامُ الغوثُ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه مخاطبًا السيدَ الكبير رضي الله عنهما -الإمام الجيلاني يخاطب الرفاعي- يقولُ له
“أنتَ الرفاعيُّ حقيقةً، أنت ولدُ الرسولِ المعروف، وقد أُعطيتَ مِن بين الأولياء هذه المراتبَ العَليةَ المكرَّمةَ المشرَّفة لكونِكَ من هذا النسب المطهّر وبسببِ سلوكِكَ طريقَ الفقر وحاصلُه أنك صرتَ شيخَ الشيوخ وصرتَ نورًا على نورٍ يا أبا الصفا -هذا مما كان يُنادَى به الإمامُ الرفاعي يا أبا الصفا، كما يقال يا أبا العلمين يا أبا العباس يا أبا صالح يا شيخَ العريجا- يقول الجيلاني للرفاعي يا أبا الصفا، من صفاءِ قلبِه من صفاءِ نيّتِه من إخلاصِه-
قد أبقَيْتَ هذا الاسمَ مِن بعدِكَ لأولادِك وفقرائِك فإنّ كلَّ مَن سلكَ طريقَ الفقرِ عنك يُسمّى بالرفاعي إلى انقراضِ الزمان”
ورد في أمِّ البراهين أنّ السيدَ أحمدَ الرفاعي رضي الله عنه كان يَخفِضُ صوتَه ولا يتكلمُ إلا بآيةٍ من كتابِ الله تعالى أو يُخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك كلِّه ماذا يقول “واخَجْلَتاهُ غدًا بين يدَي اللهِ تعالى إذا جئتُ مقَصِّرًا إذا سبقَني أصحابُ الأعمالِ المرضيّة فما يكونُ عذري عند مَن لا تخفى عنه خافية عالمُ السرِّ والعلانية”
قال السيد عبدُ السلام ” كان السيد أحمد الرفاعي يتّخذُ الفقرَ غِنى والذلَّ للهِ عزة والصبرَ على المكارهِ راحة والدنيا سجنًا قوتُه ما وجدَ ولباسُه ما سترَ العورة يعتمدُ على الله في جميعِ الأمورِ سرًّا وعلانية ويقول “مَن اعتصمَ بالمال قلّ ومَنِ اعتصمَ بالمخلوقينَ ذَلّ ومَن اعتصمَ بالله تعالى جَلّ”
من اعتصمَ بالمالِ قلّ يجدُ القِلة.
وقال الشيخُ يعقوب ” كان السيدُ أحمدُ الرفاعيّ رضي الله عنه لا يعرفُه أحدٌ إلا بذلٍّ وانكسارٍ وخضوعٍ وخشوعٍ وافتقارٍ ومَسْكَنةٍ وتواضعٍ واحتقار”
السيد الرفاعي من عظيمِ تواضعِه وإخلاصِه كان يحتقرُ نفسَه مع جلالةِ قدرِه، أن يُكثِرُ من اتّهامِ نفسِه مع أنه كان أفضلَ أولياء عصرِه وزمانِه وكانت فيه جميعُ آدابِ الفقراء والصالحين والأولياء، مُتحَلِّيًا بحِليةِ الأنبياء والمرسلين، وكان السيد أحمد رضي الله عنه مُلازِمًا الحزنَ والاضطراب دائمَ الهلَعِ والاكتئاب، كثيرَ البكاءِ والانْتِحاب، يؤدّبُ نفسَه بالرياضات، يؤدّبُ قلبَه بالمعارف، كان بكاؤُه بأدب وجلوسُه بأدب وأكلُه بأدب ونومُه بأدب ويَنهى عن المنكرِ بفعلِه ويقتَدي بقولِ الله تعالى {لا خيرَ في كثيرٍ مِن نجواهم إلا مَن أمرَ بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين الناس}[النساء/١١٤]
كان السيدُ أحمد الرفاعيّ رضي الله عنه أبًا للأيتام ربيعَ المساكين للأراملِ كالزوجِ العَطوف وللضوائعِ يلَهفُ كما يلهفُ الحزين، مَلْقَى المحتاجين ومَنهلَ عذبِ الواردين يُجيرُ اليتيمَ ويرَبّيه ويُقرِّبُ المسكينَ ويُعطيه، يعطي الأراملَ من غيرِ سؤال ويمنحُ الضوائعَ مِن غيرِ إمهال ويُسعِفُ المحتاجَ من غيرِ إهمال ويتَحنّنُ على القاصدِ بشفقَتِه ويتلذّذُ الواردُ بعذوبتِه ويتقرّبُ إلى الخالق -أي إلى طاعته- بقضاءِ حوائجِهم وإيصالِ الراحةِ إلى قلوبِهم وإذا قال قولًا أتْبَعَه بصحةِ الفعل ولم يخالِفْ قولُه فعلَه.
قال خادمُه ماهان رحمه الله تعالى “خدمتُ السيدَ أحمدَ الرفاعي رضي الله عنه عدةَ سنين ما رأيتُه تركَ أحدًا -أي من المسلمين- إلا ابْتَدأَه بالسلام ولا ردَّ أحدًا خالِيًا ولا رأيتُه عابَ شغلًا عملتُه ولا قال لي إذا لم أعمَلْهُ لم تعمَلْه ولا جافَى ولا ردَّ عليَّ يومًا قط وكان يحملُ الحطبَ على رأسِه ويأتي بابَ الرُّواق ويفَرِّقُه على الفقراء”
وكان من أخلاقِ سيدِنا أحمدَ رضي الله عنه مُحاسبةُ نفسِه في كلِّ نفَس.
ومن أخلاقِه رضي الله عنه الفرحُ إذا أدبرَ عنه الناس ليَخْلُوَ لعبادةِ ربِّه.
أمدّنا اللهُ تعالى بأمدادِ سيّدِ الأولينَ والآخرين نبيِّ المؤمنين وشفيعِ المذنبين يوم الدين سيدِنا محمدٍ طه الأمين وأمدّنا اللهُ بأمدادِ الأنبياء والأولياء والصالحين وأمدّنا الله بمددٍ خاصّ وبصلةٍ خاصة إلى السيدِ أحمدَ الرفاعيِّ الكبير رضي الله تعالى عنه.
سبحانك اللهم وبحمدِك نشهدُ أنْ لا إله إلا أنت نستغفرُكَ ونتوبُ إليك سبحانَ ربِّك ربِّ العزةِ عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.