الجمعة نوفمبر 8, 2024

روى البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد[(221)]، بَاب قَولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِن اللَّهِ: وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ المَلِكِ لاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ» .

قال الإمام أبو سليمان الخطَّابي (388هـ) في كتابه «أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري»[(222)]: قلتُ: إطلاق (الشخص) في صفة الله تعالى غير جائز، وذلك لأن (الشخص) لا يكون إلا جسمًا مؤلَّفًا، وإنما يُسمى شخصًا ما كان له شُخوصٌ وارتفاعٌ، ومثل هذا النعت منفي عن الله سبحانه، وخليق أن لا تكون هذه اللفظة صحيحة وأن تكون تصْحيفًا من الراوي. والدليل على ذلك أنَّ أبا عَوانة قد روى هذا الخبر عن عبد الملك، فلم يذكُر هذا الحرفَ، وروته أسماء بنت أبي بكر، عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا شىء[(223)] أغيَر من الله، هكذا رواه أبو عبد الله قال: كتاب النكاح: باب الغيرة: حدَّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا هَمَّام عن يحيى عن أبي سَلَمَة أنَّ عُروة بن الزبير حدَّثه عن أمِّه أسماء أنها سمعَت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا شىء أغيَرُ من الله. وعن يحيى أنَّ أبا سَلَمة حدَّثه أنَّ أبا هريرة حدَّثه أنه سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم مثلَه. فدلَّت روايةُ أسماء وأبي هريرة قولَه: لا شىء أغيَرُ من الله، على أنَّ (الشخصَ) وَهمٌ وتَصحيفٌ» ثم قال: فمن لم يُمعِن الاستماع لم يأمن الوهمَ، وليس كلُّ الرواة يُراعون لفظَ الحديث حتى لا يتَعَدُّوه، بل كثير منهم يُحدّث على المعنى وليس كلُّهم بفقيهٍ. وفي كلام آحاد الرواة منهم جَفاءٌ وتعجرف» ثم قال[(224)]: وحَرِيٌّ أن يكون لفظ (الشخص) إنما جرى من الراوي على هذا السبيل إن لم يكن من قِبَل التَّصحيف، ثم إن عُبيد الله بن عمرو قد تفرَّد به عن عبد الملك، ولم يُتابَع عليه فاعتوَره الفسادُ من هذه الوجوه، فدَلَّ ذلك على صحة ما قُلناه» اهـ. ونقله عنه محمد ابن يوسف الكرماني (786هـ) في كتابه «شرح الكرماني على صحيح البخاري»[(225)]. ونقله عنه أيضًا سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي المعروف بـ ابن المُلَقِّن في كتابه «التوضيح لشرح الجامع الصحيح»[(226)] ونقله عنه شهاب الدين أحمد بن محمد الشافعي القسطلاني (923هـ) في كتابه «إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري»[(227)] ونقله عنه أيضًا التَّاوُدي في «حاشية التَّاوُدي ابن سودة على صحيح البخاري»[(228)].

وقال ابن بطَّال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك (449هـ) في كتابه «شرح صحيح البخاري»[(229)]: اختلفت ألفاظ هذا الحديث فروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا أحد أغير من الله. ذكره في آخر كتاب النكاح، وفي رواية عبيد الله، ورواية ابن مسعود مبينة أن لفظ (شخص) موضوع موضع (أحد)» وقال: وأجمعت الأمة على أن الله لا يجوز أن يوصف بأنه شخص؛ لأن التوقيف لم يرد به». (ونقله عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه «فتح الباري بشرح صحيح البخاري»[(230)]، وكذا قال سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي المعروف بـ ابن المُلَقِّن في كتابه «التوضيح لشرح الجامع الصحيح»[(231)].

ثم قال ابن بطال[(232)]: وقد تقدم فى كتاب النكاح فى باب الغيرة، معنى الغيرة من الله أنها معنى: الزجر عن الفواحش والتحريم لها» وقال: باب قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ… *} [سورة الأنعام] ، فَسَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ شَيْئًا» وقال: قال عبد العزيز صاحب كتاب الحيدة: إنما سَمَّى الله نفسَه شيئًا إثباتًا للوجود ونفيًا للعدم» اهـ. وكذا قال محمد بن يوسف الكرماني (786هـ) في كتابه «شرح الكرماني على صحيح البخاري»[(233)].

وقال الحافظ ابن الجوزي (597هـ) في كتابه «دفع شبه التشبيه»[(234)]: لفظة (الشخص) يرويها بعض الرواة ويروي بعضهم (لا شىء أغير من الله)، والرواة يروون بما يظنونه المعنى، وكذلك (شخص) من تغيير الرواة» وقال: و(الشخص) لا يكون إلا جسمًا مؤلفًا» اهـ. أورده المحدّث محمد زاهد الكوثري في كتابه «العقيدة وعلم الكلام»[(235)].

وفي كتاب «كشف المشكل لابن الجوزي على صحيح البخاري» ومعه «التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح» للزركشي (794هـ) يقول الزركشي[(236)]: «قال الإسماعيلي: ليس فيما أورد إطلاق هذا اللفظ – الشخص – على الله تعالى» اهـ.

وقال سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي المعروف بـ ابن المُلَقِّن (804هـ) في كتابه «التوضيح لشرح الجامع الصحيح»[(237)]: وقال الداودي: قوله: (لا شخص أغير من الله). لم يأتِ متَّصلاً ولم تتلقَّ الأمة مثل هذه الأحاديث بالقبول» ثم قال: ولم يُسَمِّ نفسَه شخصًا، إنما أتى مرسلاً» وقال[(238)]: وقال ابن فورك: لفظ (الشخص) غير ثابت من طريق السند، وإنما منعنا من إطلاق لفظ الشخص لأمور: أحدها: أن اللفظ لم يثبت من طريق السمع. وثانيها: إجماع الأمة على المنع منه. ثالثها: أن معناه أن تكون أجسامًا مؤلفة على نوع من التركيب» اهـ. ونقله عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه «فتح الباري بشرح صحيح البخاري»[(239)]. ونقله عنه أيضًا شهاب الدين أحمد بن محمد الشافعي القسطلاني في كتابه «إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري»[(240)].

وقال بدر الدين العيني الحنفي (855هـ) في كتابه «عمدة القاري شرح صحيح البخاري»[(241)]: ووقع في بعض النسخ باب قول النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لا أحد أغير من الله» وقال: قلت اختلاف ألفاظ الحديث هو أن في رواية ابن مسعود (ما من أحد أغير من الله) وفي رواية عائشة (ما أحد أغير من الله) وفي رواية أسماء (لا شىء أغير من الله) وفي رواية أبي هريرة (إن الله تعالى يغار) كل ذلك مضى في كتاب النكاح في باب الغيرة» ثم قال: وقال الداودي في قوله (لا شخص أغير من الله): لم يأت متصلاً ولم تتلقَّ الأمة مثل هذه الأحاديث بالقبول» وقال: وقال الخطابي: إطلاق الشخص في صفات الله غير جائز لأن الشخص إنما يكون جسمًا مؤلفًا، وخليق أن لا تكون هذه اللفظة صحيحة وأن تكون تصحيفًا من الراوي، وكثير من الرواة يحدِّث بالمعنى، وليس كلهم فقهاء، وفي كلام آحاد الرواة جفاء وتعجرف» وقال: وبقي أن يكون لفظ الشخص جرى على هذا السبيل فاعتوره الفساد من وجوه؛ أحدها: أن اللفظ لا يثبت إلا من طريق السمع، والثاني: إجماع الأمة على المنع منه، والثالث: أن معناه أن يكون جسما مؤلفًا فلا يطلق على الله»، وقال: والخطابي لم ينكر هذه اللفظة وحده وكذلك أنكرها الداودي وابن فورك والقرطبي، قال: أصل وضع (الشخص) في اللغة لجرم الإنسان وجسمه واستعمل في كل شىء ظاهر يقال شخص الشىء إذا ظهر وهذا المعنى محال على الله. انتهى. فكلامه يدل على أنه لا يرضى بإطلاق هذه اللفظة على الله» اهـ.

وقال أبو يحيى زكريا بن محمد الأنصاري (926هـ) في كتابه «تحفة الباري بشرح صحيح البخاري»[(242)]: في نسخة (لا أحد أغير من الله)، قيل: إطلاق الشخص على الله ممتنع لأنه إنما يكون جسمًا مؤلفًا» اهـ.

وقد اتفق كل العلماء على أن الغيرة المضافة إلى الله على معنى أنه يكره لعبده المعاصي، لا على معنى التأثر النفساني والتحسر، فالله ليس كمثله شىء وهو منزه عن الإحساس والشعور واللذة والألم والانبساط والتغير والتطور والتبدل كما قال ربنا سبحانه {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} .

وقال زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما: «لا إله إلا أنت سبحانك لا يحويك مكان لا تُحَسّ ولا تَمَسّ ولا تُجَسّ». رواه الحافظ الزبيدي في الإتحاف.

فهذه جملة من الأحاديث التي أردنا التنبيه عليها مما في صحيح البخاري وننتقل بعون الله سبحانه إلى بيان ما قاله الحفاظ في تضعيف بعض روايات صحيح مسلم، وكن على ذُكرٍ دائمًا أن تضعيف بعض روايات البخاري ومسلم لا يقدح في جلالتهما رضي الله عنهما، وإلا لما ألف العلماء والحفاظ والمحدثون في التصحيح والتضعيف والجرح والتعديل، وقد قال الشاعر: (البسيط)

وفي السماءِ نجومٌ لا عِداد لها

 

وليس يُكْسَفُ إلاَّ الشمسُ والقَمَرُ

ـ[221]   كتاب التوحيد (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1421هـ، ص1340).

ـ[222]   أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري» المملكة العربية السعودية، جامعة أم القرى، المسمى معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1409هـ الجزء الرابع ص2344 – 2345).

ـ[223]   ولفظ (شىء) هنا، أي موجود لا كالموجودات، وليس معناه= = (المخلوق والحجم والجسم والكمية) تنزّه الله عن ذلك، قال الله تعالى {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} ، وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه: والله شىء لا كالأشياء. وقد استدل الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي بهذه الآية على جواز قول (والله شىء لا كالأشياء)، أي موجود لا كالموجودات).

ـ[224]   أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري (ص/2346).

ـ[225]   شرح الكرماني على صحيح البخاري (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1431هـ الجزء الثاني عشر ص299).

ـ[226]   التوضيح لشرح الجامع الصحيح (إصدارات وزارة الأوقاف – قطر، تحقيق دار الفلاح، الطبعة الأولى 1429هـ، المجلد الثالث والثلاثون ص278).

ـ[227]   إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1416هـ، الجزء الخامس عشر ص383).

ـ[228]   حاشية التَّاوُدي ابن سودة على صحيح البخاري (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1428هـ، الجزء السادس ص522).

ـ[229]   شرح صحيح البخاري (مكتبة الرشد-الرياض، الطبعة الثانية 1423هـ، الجزء العاشر ص442).

ـ[230]   فتح الباري بشرح صحيح البخاري (دار الريان-القاهرة، الطبعة الأولى 1407هـ، الجزء الثالث عشر ص412).

ـ[231]   التوضيح لشرح الجامع الصحيح (إصدارات وزارة الأوقاف – قطر، تحقيق دار الفلاح، الطبعة الأولى 1429هـ، المجلد الثالث والثلاثون ص276 – 277).

ـ[232]   شرح صحيح البخاري (ص/443).

ـ[233]   شرح الكرماني على صحيح البخاري (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1431هـ الجزء الثاني عشر ص300).

ـ[234]   دفع شبه التشبيه (ص/247).

ـ[235]   العقيدة وعلم الكلام (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1425هـ).

ـ[236]   التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1424هـ الجزء الثامن ص362).

ـ[237]   التوضيح لشرح الجامع الصحيح (إصدارات وزارة الأوقاف – قطر، تحقيق دار الفلاح، الطبعة الأولى 1429هـ، المجلد الثالث والثلاثون ص277).

ـ[238]   التوضيح لشرح الجامع الصحيح (ص/279).

ـ[239]   فتح الباري بشرح صحيح البخاري (دار الريان – القاهرة، الطبعة الأولى 1407هـ، الجزء الثالث عشر ص413).

ـ[240]   إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1416هـ، الجزء الخامس عشر ص383).

ـ[241]   عمدة القاري شرح صحيح البخاري (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1421هـ، الجزء الخامس والعشرون ص163 – 164).

ـ[242]   تحفة الباري بشرح صحيح البخاري (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1425هـ، الجزء السادس ص539).