روى البخاري في صحيحه في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {…وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [(76)]: «حَدَّثَنَا سَعِيدُ ابْنُ تَلِيدٍ الرُّعَيْنِيُّ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلاَّ ثَلاَثًا».
ورواه أيضًا في كتاب النكاح[(77)]، ورواه مسلم في صحيحه[(78)] في كتاب الفضائل.
قال الحافظ ابن الجوزي: [(79)] «وفي الحديث الثامن والأربعين بعد المائتين: «لم يكذب إبراهيم قط إلا ثلاث كذبات قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقوله عن سارة أختي»، اعلم أن الكذب لا يجوز على الأنبياء بحال، فهذا أصل ينبغي أن يعتقد ولا يناقض بأخبار الآحاد، فإنه ثابت بدليل أقوى منها، وإنما المعنى أن إبراهيم قال قولا يشبه الكذب، قال أبو بكر ابن الأنباري: «كلام إبراهيم كان صدقا عند البحث، وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قولا يشبه الكذب في الظاهر وليس بكذب»، قال ابن عقيل: دلالة العقل تصرف ظاهر هذا اللفظ، وذاك أن العقل قطع بأن الرسول ينبغي أن يكون موثوقا به ليعلم صدق ما جاء به عن الله، ولا ثقة مع تجويز الكذب عليه، فكيف مع وجود الكذب منه، وإنما استعير ذكر الكذب لأنه بصورة الكذب، فسماه كذبا مجازا، ولا يجوز سوى هذا. قلت: واعلم أن تلك الكلمات إنما كانت من إبراهيم على جهة المعاريض غير أن الأنبياء يحذرون من كلمة تشبه الكذب».
وقال القاضي عياض: [(80)] «وإنما سمى هذه كذبات لكونها في الظاهر على خلاف مخبرها، وإبراهيم صلى الله عليه وسلم إنما عرّض بها عن صدق، فقال: أنت أختي، يريد في الإسلام، و {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} على طريق التبكيت بدليل قوله: {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} ، و {إِنِّي سَقِيمٌ} أي سأسقم، ومن عاش يسقم، ولا بد يهرم ويموت».
وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: [(81)] «فورد عليه إشكال من نسبة الكذب إلى نبي، ودفع الإِشكال: أن تسمية هذا الكلام كذبًا منظور فيه إلى ما يُفهمه أو يعطيه ظاهر الكلام، وما هو بالكذب الصراح، بل هو من المعاريض، أي أني مثل السقيم في التخلف عن الخروج، أو في التألم من كفرهم، وأن قوله: «هي أختي» أراد أخوّةَ الإِيمان، وأنه أراد التهكم في قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [سورة الأنبياء] لظهور قرينة أن مراده التغليط» اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير: [(82)] «ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله حاشا وكلا ولما، وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزًا، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني كما جاء في الحديث: « إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ».
وقال البيضاوي: [(83)] «وما روي إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كذب ثلاث كذبات، فالمراد التعريض، ولكن لما شابه الكذب في صورته سمي به».
قال أبو البقاء محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي المعروف بابن النجار [(84)] «والتّعريض حقيقة، وهو لفظ مستعمل في معناه مع التّلويح بغيره» أي بغير ذلك المعنى المستعمل فيه، مأخوذ من العُرْض – بالضّمّ -، وهو الجانب. فكأنّ اللّفظ واقع في جانب عن المعنى الّذي لوّح به.
ومن ذلك قول سيّدنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم وعلى سيّدنا محمّد: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} أي غضب أن عبدت هذه الأصنام معه فكسّرها، وإنّما قصده التّلويح أنّ اللّه سبحانه وتعالى يغضب أن يعبد غيره ممّن ليس بإله من طريق الأولى.
وبذلك يعلم أنّ اللّفظ – وإن لم يطابق معناه الحقيقيّ في الخارج – لا يكون كذبا إذا كان المراد به التّوصّل إلى غيره بكناية كما سبق، وتعريض كما هنا، وإن سمّي كذبا فمجاز باعتبار الصّورة، كما جاء في الحديث الشّريف «لم يكذب إبراهيم إلاّ ثلاث كذبات». المراد: صورة ذلك، وهو في نفسه حقّ وصدق» اهـ.
فنرى أن كثيرًا من أهل العلم تأولوا هذا الحديث، وحملوه على ما يوافق الأصول الثابتة من عصمة الأنبياء عن الكذب والمنفرات. هذا وثمَّ قسم منهم ردوا هذا الحديث معتمد ابن علي أنه خبر ءاحاد عارض الدليل القاطع ومنهم الفخر الرازي.
قال المفسر فخر الدين الرازي (606هـ) في كتابه «عصمة الأنبياء» في سياق كلامه على هذا الحديث[(85)]: «قلتُ: هذا من أخبار الآحاد فلا يعارض الدليل القطعي الذي ذكرناه، ثم إن صح حُمل على ما يكون ظاهره الكذب» اهـ.
وقال في «التفسير الكبير»[(86)]: «واعلم أن بعض الحشوية روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما كذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات)، فقلت: الأَولى أن لا نقبل مثل هذه الأخبار، فقال على طريق الاستنكار: فإن لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة، فقلت له: يا مسكين إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم عليه السلام، وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة، ولا شك أن صون إبراهيم عليه السلام عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب».
تنبيه: لكن إن كان هذا الحديث في البخاري فهذا الكلام يحتاج إلى تعليق.
وقال أيضًا في «التفسير الكبير»[(87)]: «فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» ثم قال: «وإذا أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكذب إلى الأنبياء عليهم السلام فحينئذ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلا زنديق» اهـ.
وقال أيضًا في «التفسير الكبير»[(88)]: «الوجه السابع: قال بعضهم ذلك القول عن إبراهيم عليه السلام كذبة، ورووا فيه حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات) قلت لبعضهم: هذا الحديث لا ينبغي أن يقبل لأن نسبة الكذب إلى إبراهيم لا تجوز، فقال ذلك الرجل: فكيف يحكم بكذب الرواة العدول؟ فقلت: لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل عليه السلام كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى» اهـ.
وربما ساعد على هذا ما قاله شارح البخاري بدر الدين العيني (855هـ) في كتابه «عمدة القاري شرح صحيح البخاري»[(89)] في حديث «لم يكذب إبراهيم» : «وأخرجه من طريقين» ثم قال: «والثاني عن محمد بن محبوب أبي عبد الله البصري إلى آخره، وهذا الطريق غير مرفوع والحديث في الأصل مرفوع كما في رواية جرير بن حازم، وكذا عند النسائي والبزار وابن حبان مرفوع من حديث هشام بن حسان عن ابن سيرين، وابن سيرين كان غالبا لا يصرح برفع كثير من حديثه» ثم قال: «وأخرج البخاري هذا الحديث أيضًا في كتاب البيوع في باب شراء المملوك من الحربي عن أبي اليمان عن شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة إلى آخره. وليس فيه قضية الكذب، وباقي القضية فيه على اختلاف في المتن بزيادة ونقصان» اهـ.
فهذا الحديث إن صح معناه ما صورته صورة كذب، ولكنه من حيث الباطن والحقيقة صدق، وهو قول كافة المحققين من علماء أهل السنة كما قال الرازي في تفسيره.
ـ[76] (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1421هـ ص614 رقم الحديث 3357).
ـ[77] كتاب النكاح: باب اتخاذ السراري ومن أعتق جاريته ثم تزوجها (ص958 رقم الحديث 5084).
ـ[78] كتاب الفضائل: باب من فضائل إبراهيم الخليل ص925 رقم الحديث 2371. (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1421هـ).
ـ[79] كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/981 – 982) أبو الفرج عبد الرحمـن بن الجوزي، (دار الوطن – الرياض – 1418هـ – 1997م، تحقيق: علي حسين البواب.
ـ[80] مشارق الأنوار على صحاح الآثار لقاضي عياض المالكي (1/338).
ـ[81] التحرير والتنوير الطبعة التونسية (23/143)، الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع – تونس – 1997م.
ـ[82] تفسير ابن كثير (4/18)، تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي أبو الفداء، دار الفكر – بيروت – 1401هـ.
ـ[83] تفسير البيضاوى (1/168) تأليف: البيضاوي، دار النشر: دار الفكر – بيروت.
ـ[84] شرح الكوكب المنير (1/202 – 203) تقي الدين أبو البقاء محمد ابن أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي المعروف بابن النجار (المتوفى: 972هـ) المحقق: محمد الزحيلي ونزيه حماد، الناشر:= = مكتبة العبيكان، الطبعة الثانية 1418هـ – 1997م.
ـ[85] عصمة الأنبياء (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1401هـ ص60).
ـ[86] التفسير الكبير (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411هـ المجلد التاسع، الجزء18 ص96).
ـ[87] التفسير الكبير (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411هـ المجلد الحادي عشر، الجزء22 ص161).
ـ[88] التفسير الكبير (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411هـ المجلد الثالث عشر، الجزء26 ص129).
ـ[89] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1421هـ، الجزء الخامس عشر ص342).