الأحد نوفمبر 3, 2024

الإمام الأوزاعي


ترجمته:
هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يُحْمَد الأوزاعي، نسبة إلى الأوزاع وهي قبيلة يمنية نزل أناس منها في قرية من قرى دمشق عند باب الفراديس فسميت باسمهم وظلت معروفة إلى القرن التاسع الهجري ثم شملها العمران فاندثرت. وقيل إنه سمي بذلك لنزوله في هذه المحلة.

وقال بعض النسابين إن الأوزاع في الأصل بطن من ذي الكلاع ملك حِمير، وبنو حمير من العرب القحطانيين في اليمن، خرجوا وتفرقوا في البلاد بعد حادثة سد مأرب الذي فاضت مياهه فاغرقت القرى، أما ياقوت الحموي فقال إنه ينتسب إلى بني همدان التي هي قبيلة يمنية كان منها رجال أبطال جاهدوا في الإسلام جهادًا عظيمًا.

ولد الإمام الأوزاعي في بعلبك سنة ثمانية وثمانون للهجرة ونشأ يتيمًا في حجر أمه التي كانت تتنقل به من بلد إلى ءاخر ومن عالم إلى ءاخر، فنشأ تنشئة دينية صالحة، وكان يتنقل بين الشام واليمن والحجاز والبصرة وغيرها طالبًا العلم يستقيه من مناهله العذبة الطاهرة.


من مناقبه:
روى الحافظ أبو نُعيم في “حلية الأولياء” أن أبا جعفر المنصور قد بعث إلى الإمام الجليل الأوزاعي، فلما دخل عليه قال المنصور: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي؟ قال: وما الذي يريده أمير المؤمنين؟ قال المنصور: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم، قال الإمام: انظر لا تجهل شيئًا مما أقول، قال المنصور: كيف أجهله وأنا أسألك عنه وقد وجهت فيه إليك؟ قال: أن تسمعه ولا تعمل به، فصاح الربيع به، وأخذ السيف بيده، فانتهره المنصور وقال للربيع: هذا مجلس مثوبة لا عقوبة، فحينئذ قال الإمام الأوزاعي: يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن عطية بن بسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أيما عبد جاءته من الله موعظة في دينه فإنها نعمة من الله سيقت إليه، فإن قبلها بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد بها إثمًا ويزداد الله عليه بها سخطًا” [رواه البيهقي]، يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن عطية بن بسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أيما والٍ بات غاشًا لرعيته حرم الله عليه الجنة” [رواه البيهقي]، يا أمير المؤمنين، إن الذي يُلين قلوب أمتّكم لكم حين وليتم أمورها قرابتكم من نبيكم صلى الله عليه وسلم، وقد كان بهم رؤوفًا رحيمًا مواسيًا نفسه بهم في ذات يده، وإنك عند الناس لحقيق أن تقوم فيهم بالحق وأن تكون بالقسط فيهم قائمًا ولعوراتهم ساترًا، لم تغلق عليك دونهم الأبواب، ولم تُقم عليك دونهم الحُجَّاب، تبتهج بالنعمة عندهم وتبتئس بما أصابهم من سوء.

ولم يكن هذا إلال نزرًا يسيرًا من الموعظة التي وعظ الإمام الأوزاعي أبا جعفر المنصور أياها، وهي موعظة طويلة فيها من المعاني العظيمة والحِكم ما جعل المنصور يبكي بكاءً شديدًا.

وذلك كان شأن الإمام الأوزاعي الذي كان لا يبخل بالنصيحة في موضعها عملاً بقول الله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [ءال عمران/ ءاية110].


مشايخه:
نشأ في بلدة الكرك من البقاع حيث تلقى مبادئ العلوم وحفظ القرءان الكريم وحظًا من اللغة، ثم توجه إلى دمشق حيث لازم مكحولاً الذي كان فقيه الشام ءانذاك وواحدًا من حفاظ الحديث، فأخذ عنه الكثير وقرأ عليه حتى عُدَّ مكحول معلم الأوزاعي.

ثم رحل إلى اليمامة حيث أخذ عن يحيى بن كثير وانقطع إليه زمنًا، كما كان له صلة بآل البيت كالإمام زيد بن علي زين العابدين والإمام محمد الباقر، والإمام جعفر الصادق رضوان الله عليهم وغيرهم.

وتلقى الحديث والفقه عن عطاء بن أبي رباح أحد أعلام التابعين، وقتادة وهو أحد أعلام المفسرين واللغويين، ومحمد بن شهاب الزهري أحد أئمة المدينة المنورة، ونافع بن عمر الذي أخذ الأوزاعي عنه علم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وبقي الإمام دائبًا على تلقي العلوم الإسلامية ومتتبعًا ءاثار الصحابة والتابعين حتى اكتملت عنده شروط الاجتهاج فصار مجتهدًا مطلقًا سديدًا موفقًا في اجتهاداته، وسار مذهبه في بلاد الشام والمغرب والأندلس قريب المائتي سنة.


صفاته وأخلاقه:
لقد كان الإمام إلى جانب علمه رجلاً زاهدًا تقيًا كثير العبادة قليل الكلام، فقد ورد عن الوليد بن مسلم أنه قال عنه: ما رأيت أحدًا أكثر اجتهادًا من الأوزاعي في العبادة، وكان إذا صلى الصبح جلس يذكر الله تعالى حتى طلوع الشمس.

أما ابن عساكر فقد قال عنه: كان الأوزاعي كثير العبادة حسن الصلاة، ورعًا، طويل الصمت.

وكان رضي الله عنه كثير البكاء والتهجد والابتهال في دعائه، ولم يُرَ قط ضاحكًا يقهقه بل كان غاية ذلك أن يبتسم، وكان لا يبكي في مجلسه، فإذا دخل بيته كان يبكي حتى يشفق عليه.

ويروى أن امرأة دخلت على امرأة الإمام فرأت الحصير الذي يصلي عليه مبلولاً فقالت: لعل الصبي بال هنا؟ فقالت: هذا أثر دموع الشيخ في سجوده، هكذا يصبح كل يوم.

استوطن بيروت مع زوجه وأولاده، فقد روى الحافظ أبو نعيم في “حلية الأولياء” عن الإمام الأوزاعي أنه قال: أعجبني في بيروت أني لما مررت بقبورها رأيت امرأة سوداء فقلت لها: أين العمارة يا هنتاه؟ فقالت: إن أردت العمارة فهي هذه [وأشارت إلى القبور]، وإن أردت الخراب فأمامك [مشيرة إلى البلدة]، قال: فعزمت على الإقامة فيها، وذلك لما مس فيها من الزهد والتقوى ءانذاك.


مواعظه ورسائله:
لقد كان الإمام الأوزاعي ذا باع طويل في البلاغة وحسن البيان بحيث يفوق الكثير من أعلام الأدب في عصره، وكانت عباراته صادقة اللهجة متينة السبك قوية المعاني، وقد ظهر ذلك في ناحيتين اثنتين: مجالسه التي كان يعقدها، ومراسلاته إلى الأمراء والعلماء وطلاب العلم.

ومن هذه الرسائل ما أرسله إلى أبي جفر المنصور بعدما وقع الألوف من المسلمين أسرى لدى الروم وأبى المنصور أن يفادي بهم، فأرسل إليه الإمام الأوزاعي رسالة فيها: “أما بعد فإن الله تعالى استرعاك أمر هذه الأمة لتكون فيها بالقسط قائمًا وبنبيه صلى الله عليه وسلم في خفض الجناح والرأفة متشبهًا، وأسأل الله تعالى أن يسكن على أمير المؤمنين دهماء هذه الأمة ويرزقه رحمتها، فإن سايحة المشركين غلبت عام أول وموطؤهم حريم المسلمين، واستنزالهم العواتق والذراري من المعاقل والحصون، وكان ذلك بذنوب العباد، وما عفا الله عنه أكثر، فبذنوب العباد استنزلت العواتق والذراري من المعاقل والحصون، لا يلقون لهم ناصرًا ولا عنهم مدافعًا، كاشفات عن رؤوسهن وأقدامهن… وقد بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إني لأسمع بكاء الصبي خلفي في الصلاة فأتجوز فيها مخافة أن تفتتن أمه”، كيف بتخليتهم يا أمير المؤمنين في أيدي عدوهم يمتهنونهم ويتكشفون منهم ما لا نستحله نحن إلا بنكاح؟ وأنت راعي أحكام الله، والله تعالى مستوفٍ منك” فلما وصله الكتاب أمر بالفداء.

ومن رسائله أيضًا ما بعث به إلى أخ له يقول له فيه: “أما بعد فإنه قد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يُسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون ءاخر العهد بك، والسلام”.

ومن أقواله وحكمه قوله في موعظة له: “تقوَّوا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة، التي تطّلع على الأفئدة، فإنكم في دار الثواء فيها قليل، وأنتم عما قليل منها راحلون، خلائف بعد القرون الماضية الذين استقبلوا من الدنيا أنفها وزهرتها، فهم كانوا أطول منكم أعمارًا وأمد أجسامًا، وأعظم إجلالاً، وأكثر أموالاً وأولادًا، فخدَّدوا الجبال وجابوا الصخور بالواد، وتنقلوا في البلاد مؤيدين ببطش شديد وأجساد كالعماد، فما لبثت الأيام والليالي أن طويت ءاثارهم، وتغيرت منازلهم وديارهم، فهل تُحسُّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا، كانوا يتطلبون الدنيا ويطيلون الأمل ءامنين، وعن ميقات يوم موتهم غافلين، فآبوا إياب قوم نادمين، ثم إنكم علمتم الذي نزل بساحتهم بيانًا من عقوبة الله، فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين، وأصبح الباقون المتخلفون ينظرون في نعم الله وينظرون في نقمته وزوال نعمته عمن تقدمهم من الهالكين، ينظرون في مساكن خالية قد كانت بالعز محفوفة، وبالنعم معروفة، والقلب إليها مصروف والاعين إليها ناظرة”.

ومن مواعظه قوله: “مَنْ أكثر من ذكر الموت كفاه اليسير، ومَنْ علم أن منطقه مِنْ عمله قلّ كلامه”.

وقال أيضًا واعظًا: “عليك بآثار مَنْ سلف وإن رفضك الناس، وإياك وأقوال الرجال وإن زخرفوها وحسنوها”.

وروى عبد الله بن اسماعيل بن بنت الإمام عن أبيه أنه قال: وجدت في كتب الأوزاعي بخط يده: “يا ابن ءادم اعمل لنفسك وبادر فقد أتيت من كل جانب، واعول كعويل الأسير المكبل، ولا تجعل بقية عمرك للدنيا، وطلبها في أطراف الارض، حسبك ما بلغك منها، ستسلم طائعًا وتعز بيوم فقرك وفاقتك واسعًا في طلب الأمان، فإنك في سفر إلى الموت يطرد بك نائمًا ويقظان، واذكر سهر أهل النار في خُلد أبدًا، وتخوّف أن ينصرف بك من عند الله إلى النار، فيكون ذلك ءاخر العهد بالله عز وجل وينقطع الرجاء، واذكر أنك قد راهقت الغاية وإنما بقي الرمق، فسدد تصبرًا وتكرمًا، وارغب عن أن تفني بقية عمرك للدنيا، وخذ منها ما يفرغك لآخرتك، ودع من الدنيا ما يشغلك عن الآخرة”.

ذلك يظهر بكل وضوح أثر مواعظ الإمام الاوزاعي وحكمه في نفوس الناس، وفي ذلك يقول ضمرة: ما تكلم الأوزاعي بكلمة إلا كان المتعين على من يسمعها من جلسائه أن يكتبها عنه لحسنها.

وقال العباس بن الوليد بن مزيد: ما رأيت أبي يتعجب من شيء رءاه في الدنيا، تعجبه من الأوزاعي، وكان يقول: سبحان الله يفعل ما يشاء ما سمعت منه كلمة قد إلا رغب مستمعها في حفظها وإثباتها.

وحسبنا ما قاله أبو حاتم الرازي في بيان كلام الإمام ومراسلاته: كان الأوزاعي لا يلحن في كلامه، وكانت كتبه ترد على الخليفة المنصور فينظر فيها ويتأملها ويتعجب من فصاحتها وحلاوة عبارتها، وقد قال يومًا لأحظى كُتّابه: ينبغي أن تُجيب الأوزاعي على كُتبه، فقال: والله يا أمير المؤمنين لا يقدر أحد من أهل الأرض على مثل كلامه ولا على شيء منه، وإنا لنستعين بكلامه فيما نكاتب به الآفاق إلى من لا يعرف كلام الأوزاعي.


ثناء العلماء عليه
قال سفيان بن عيينة فيه: كان الأوزاعي إمام زمانه، وعن عباس بن زياد قال: كان أبي يقول: يا بني، عجز الملوك أن يؤدبوا أنفسهم وأولادهم أدبه في نفسه.

وقال اسماعيل بن عياش: سمعت الناس سنة أربعين ومائة يقولون: الأوزاعي اليوم عالم الأمة.

وقال يحيى بن معين: العلماء أربعة: الثوري وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي.

وقال محمد بن شعيب: قلت لأميمة بن يزيد: أين الأوزاعي من مكحول؟ قال: هو عندي أرفع من مكحول، إنه قد جمع العبادة والعلم والقول الحق.

وأما ابن سعد فقد قال عنه: كان الأوزاعي ثقة مأمونًا فاضلاً خيرًا كثير الحديث والعلم والفقه.

وعن عبيد بن حيان قال: أتيت مجلس مالك بن أنس وهو عنه غائب فقلت لأصحاب مالك: ما يقول أبو عبد الله في مسألة كذا وكذا؟ فأجابوا، فقلت: كت هكذا يقول أبو عمرو [يعني الأوزاعي] إنه يقول كذا وكذا، بخلاف ما قالوه، فتضاحكوا، ولما أقبل مالك وجلس قالوا: يا أبا عبد الله أتسمع ما يحدث الشامي عن الأوزاعي؟ فقلت: ما تقول أنت في مسألة كذا وكذا؟ فأجاب مثل جوابهم، فقلت: ما هكذا يقول أبو عمرو، فتضاحكوا وعلت الإمام سكتة فأخلد برأسه الأرض مليًا، ثم رفع رأسه وقال: إن القول ما قاله أبو عمرو، فرأيتهم وقد عاد ما بي من الحال بهم.


وفاته:
روى عقبة بن علقمة البيروتي في سبب وفاة الإمام الأوزاعي أنه دخل حمام منزله في يوم شديد البرودة، فأدخلت زوجته مه موقدًا فيه فحم وقاية من البرد، وأغلقت باب الحمام فمات بسبب الفحم، وكان ذلك يوم الأحد لليلتين بقيتا من صفر، وقيل من ربيع الأول سنة مائة وسبعة وخمسين للهجرة وهو في التاسعة والستين من عمره.

قال ابن مسهر: لم تكن امرأته عامدة، فأمرها قاضي بيروت سعيد بن عبد العزيز بعتق رقبة.

وكان يومًا مشهودًا حضره أعداد لا تكاد تحصى من المسلمين وغيرهم، فقد روى العباس بن الوليد بن مزيد عن سالم بن المنذر قال: سمعت الصيحة بوفاة الأوزاعي، فخرجت، فأول من رأيت نصراني قد ذر على رأسه الرماد والمسلمون من أهل بيروت يعرفون ذلك، ودفن الإمام رحمه الله خارج بيروت قرب شاطئ البحر، وبين الصنوبر بأرض قرية يقال لها حنتوس وهو مدفون في قبلة حائط مسجدها.

رحم الله الإمام الأوزاعي ودفع به عنا البلايا إنه على كل شيء قدير.