قال الألباني بعد أن ذكر طرق حديث([1]): «لا تُشَدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحرام ومسجدِ الرسول ومسجدِ الأقصى» ما نصّه([2]): «وفي هذه الأحاديث تحريم السفر إلى موضع من المواضع المباركة مثل مقابر الأنبياء والصالحين».اهـ.
الرَّدُّ:
أمّا استدلاله بهذا الحديث لتحريم السفر لزيارة قبر النبيّ فجوابه أنّ أحدًا من السلف لم يفهم ما فهمه هذا الرجل؛ بل زيارة قبر الرسول سُنَّة، سواء كانت بسفر أم بغير سفر كسكان المدينة، والحنابلة قد نصّوا كغيرهم على كون زيارة قبر النبيّ سُنَّة، سواء قصدت بالسفر لأجلها أم لم تقصد بالسفر لأجلها.
وأما الحديث فمعناه الذي فهمه السلف والخلف أنه لا فضيلة زائدة في السفر لأجل الصلاة في مسجد إلا السفر إلى هذه المساجد الثلاثة، لأن الصلاة تضاعف فيها إلى مائة ألف، وذلك في المسجد الحرام، وإلى ألف وذلك في مسجد الرسول وغلى خمسمائة وذلك في المسجد الأقصى. فالحديث المراد به السفر لأجل الصلاة، ويبيّن ذلك ما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده([3]) من طريق عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حَوْشَب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا: «لا ينبغي للمطِيِّ أن تشدَّ رحالُه إلى مسجدٍ يُبتغى فيه الصلاةُ غيرَ المسجدِ الحرامِ والمسجدِ الأقصى ومسجدي هذا»، وهذا الحديث حسَّنه الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»([4])، وهو مبيّن لمعنى الحديث السابق، وتفسير الحديث بالحديث خير من تحريف الألباني، قال الحافظ العراقي في ألفيته في مصطلح الحديث([5]): «وخَيْرُ ما فَسَّرتَه بالوارِد».اهـ. أي خير ما يُفسر الحديث بحديث ءاخر وارد عن النبيّ .
وروي الحديث من وجه ءاخر من طريق ليث بن أبي سُلَيْم عن شَهْر بن حَوْشب قال: «أقبلت أنا ورجال من عمرة فمررنا بأبي سعيد الخدري فدخلنا عليه فقال: أين تريدون؟ قلت: نريد الطور، قال: وما الطور؟ سمعت رسول الله يقول: «لا تُشدُّ رحالُ المطيِّ إلى مسجدٍ يذكرُ اللهُ فيهِ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: مسجدِ الحرامِ ومسجدِ المدينةِ وبيتِ المقدس»([6]).
وذكر الحافظ أن الشيخ تقي الدين السبكي وغيره ردّوا على ابن تيمية لتحريمه السفر إلى زيارة قبر النبيّ ثم قال([7]): «والحاصل أنهم ألزموا ابن تيمية بتحريم شد الرحل إلى زيارة قبر سيدنا رسول الله وأنكرنا صورة ذلك… وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية».اهـ.
وقال الشيخ بدر الدين العيني الحنفي في شرحه على البخاري ما نصّه([8]): «وشد الرّحْل كناية عن السفر، لأنّه لازم للسفر، والاستثناء مفرَّغ، فتقدير الكلام: لا تشد الرحال إلى موضع أو مكان، فإن قيل: فعلى هذا يلزم أن لا يجوز السفر إلى مكان غير المستثنى حتى لا يجوز السفر لزيارة إبراهيم الخليل صلوات الله تعالى وسلامه عليه ونحوه، لأن المستثنى منه في المفرغ لا بد أن يقدر أعم العام، وأجيب بأن المراد بأعم العام ما يناسب المستثنى نوعًا ووصفًا كما إذا قلتَ: ما رأيتُ إلا زيدًا كان تقديره: ما رأيت رجلًا أو أحدًا إلا زيدًا، لا ما رأيت شيئًا أو حيوانًا إلا زيدًا، فههنا تقديره: لا تشد إلى مسجد إلا إلى ثلاثة».اهـ.
وخالف الذهبيُّ شيخَه ابن تيمية في هذه المسألة فقال([9]) في بيان معنى الحديث: «لا تشد الرحال إلى مسجد ابتغاء الأجر سوى المساجد الثلاثة، فإن لها فضلًا خاصًّا».اهـ. وقال أيضًا([10]): «فزيارة قبره من أفضل القُرب، وشد الرحال إلى قبور الأنبياء والأولياء لئن سلَّمنا أنه غير مأذون فيه لعموم قوله صلوات الله عليه: «لا تشدوا الرحالَ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ»، فشد الرحال إلى نبيّنا مستلزم لشد الرحل إلى مسجده، وذلك مشروع بلا نزاع إذ لا وصول إلى حجرته إلا بعد الدخول إلى مسجده، فليبدأ بتحية المسجد ثم بتحية صاحب المسجد، رزقنا الله وإياكم ذلك، ءامين».اهـ. فقوله: «لئن سلمنا أنه غير مأذون فيه» إشارة منه إلى أنه لا يوافق على منع السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين.
ومما يدل على جواز شد الرحال بقصد زيارة قبره الشريف قوله : «ليهبطنَّ عيسى ابنُ مريمَ حكمًا عدلًا وإمامًا مقسطًا، وليسلكنَّ فجًّا حاجًّا أو معتمرًا أو بنيتهما، وليأتينَّ قبري حتى يسلّمَ عليَّ ولأردنَّ عليهِ» صحَّحه الحافظ أبو عبد الله الحاكم في «المستدرك»، ووافقه الذهبي([11]).
وورد في السفر إلى زيارته عن الصحابي بلال بن أبي رباح رضي الله عنه مؤذن رسول الله أنه سافر من الشام إلى المدينة لزيارة قبره ، قال الحافظ السبكي في «شفاء السقام»([12]): «روينا ذلك بإسناد جيد له، وهو نص في الباب»، رواه ابن عساكر في تاريخه([13]).
واستدل العلماء على جواز السفر بقصد زيارة قبره الشريف أيضًا بحديث([14]): «من زار قبري وجبَت له شفاعتي» رواه الدارقطني في سننه، وحسّنه الحافظ تقي الدين السبكي في «شفاء السقام»([15]).
وقال الحافظ النووي في كتابه «الأذكار» ما نصه([16]): «فصل في زيارة قبر رسول الله وأذكارها: اعلم أنه ينبغي لكل مَن حج أن يتوجه إلى زيارة رسول الله ، سواء كان ذلك طريقه أو لم يكن، فإن زيارته من أهم القربات وأربح المساعي وأفضل الطلبات».اهـ.
وقال ابن قدامة الحنبلي في كتابه «المغني» في كتاب الحج ما نصه([17]): «فصل: ويستحب زيارة قبر النبيّ لما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله : «من زار قبري وجبت له شفاعتي».اهـ.
وقال البُهوتي الحنبلي في كتابه «كشاف القناع»([18]): «(فصل: وإذا فرغ من الحج استحب له زيارة النبي وقبر صاحبيه) أبي بكر وعمر (رضي الله) تعالى (عنهما) لحديث الدارقطني… تنبيه: قال ابن نصر الله([19]): لازم استحباب زيارة قبره استحباب شد الرحال إليها، لأن زيارته للحاج بعد حجه لا تمكن بدون شد الرحل، فهذا كالتصريح باستحباب شد الرحل لزيارته ».اهـ. وابن نصر الله هو شيخ الحنابلة ومفتي الديار المصرية كما في «الشذرات» لابن العماد.
وقال المرداوي الحنبلي في كتابه «الإنصاف»([20]) ما نصّه: «قوله: (فإذا فرغ من الحج استُحب له زيارة قبر النبي وقبر صاحبيه) هذا المذهب وعليه الأصحاب قاطبة متقدمهم ومتأخرهم».اهـ.
فهؤلاء الحنبالة لم يعتدوا بكلام ابن تيمية في تحريمه السفر لزيارة قبر النبي فخالفوه، فحين أن الوهابية الذين ينتسبون ظاهرًا إلى الإمام أحمد بن حنبل خالفوه وخالفوا أصحابه وقلّدوا ابن تيمية في بدعته، فسبحان الله الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
وقال الحافظ أبو زرعة العراقي([21]): «(الحادية عشرة) استدل به على أنه لو نذر إتيان مسجد المدينة لزيارة قبر النبي لزمه ذلك لأنه من جملة المقاصد التي يؤتى لها ذلك المحل؛ بل هو أعظمها، وقد صرح بذلك القاضي ابن كج من أصحابنا فقال: عندي إذا نذر زيارة قبر النبي لزمه الوفاء وجهًا واحدًا، ولو نذر أن يزور قبر غيره فوجهان. وللشيخ تقي الدين ابن تيمية هنا كلام بشع عجيب يتضمن منع شد الرحل للزيارة وأنه ليس من القرب؛ بل هو ضد ذلك، وردَّ عليه الشيخ تقي الدين السبكي في «شفاء السقام» فشفى صدور المؤمنين. وكان والدي رحمه الله يحكي أنه كان معادلًا للشيخ زين الدين عبد الرحيم بن رجب الحنبلي في التوجه إلى بلد الخليل ليحترز عن شد الرحل لزيارته على طريقة شيخ الحنابلة ابن تيمية، قال: فقلت: نويت زيارة قبر الخليل ، ثم قلت له: أما أنت فقد خالفت النبي لأنه قال: «لا تشدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ»، وقد شددت الرحل إلى مسجد رابع وأما أنا فاتبعت النبي لأنه قال: «زوروا القبورَ»([22])، أفقال: إلا قبور الأنبياء؟ قال: فبهت. قلت: ويدلُّ على أنه ليس المراد إلا اختصاص هذه المساجد بفضل الصلاة فيها، وأن ذلك لم يَرِد في سائر الأسفار قوله في حديث أبي سعيد المتقدم: لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير كذا وكذا، فبين أن المراد شد الرحل إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة لا كلّ سفر، والله أعلم».اهـ.
فلا حجة بعد هذا البيان الشافي للمحرّمين على المسلمين السفر لزيارة قبره ، فلا زال أهل السُّنَّة والمحبون لرسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام يزورون قبره الشريف، لا سيما في موسم الحج رجاء حصول البركة والنفحات الزكية بإذن الله تعالى.
[1])) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1/398).
[2])) الألباني، الكتاب المسمّى أحكام الجنائز (ص226).
[3])) مسند أحمد (3/64)، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (4/3): «رواه أحمد وشهر فيه كلام وحديثه حسن».اهـ.
[4])) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري (3/65).
[5])) العراقي، ألفية العراقي في علوم الحديث (1/61).
[6])) أبو يعلى، مسند أبي يعلى (3/12).
[7])) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري (3/66).
[8])) بدر الدين العيني، عمدة القاري (7/252، 253).
[9])) الذهبي، سير أعلام النبلاء (9/368).
[10])) الذهبي، سير أعلام النبلاء (4/484، 485).
[11])) الحاكم، المستدرك على الصحيحين، بتعليق الذهبي في تلخيصه (2/595).
[12])) السبكي، شفاء السقام (ص52).
[13])) ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق (7/136، 137)، ترجمة إبراهيم بن محمد بن سليمان الأنصاري.
[14])) سنن الدارقطني، كتاب الحج، باب: المواقيت (2/278).
[15])) السبكي، شفاء السقام (ص13).
[16])) النووي، الأذكار (ص216).
[17])) ابن قدامة، المغني (3/588).
[18])) البهوتي، كشاف القناع (2/514، 515).
[19])) هو: قاضي القضاة محيي الدين أبو الفضل أحمد بن نصر الله بن أحمد البغدادي ثم المصري الحنبلي، توفي سنة 844هـ. ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب (7/250).
[20])) المرداوي الحنبلي، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (4/53).
[21])) أبو زرعة العراقي، طرح التثريب في شرح التقريب (6/43).
[22])) أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الجنائز، باب: ما جاء في زيارة القبور (1/500).