الأحد نوفمبر 9, 2025

قال الله تعالى:
{أَفَرَأَيْتُمُ اللاََّّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}
[النجم: 19، 20].

إن مما يجب للأنبياء التبليغ، فكل الأنبياء مأمورون بالتبليغ، وقد دلَّ على ذلك قوله تعالى في سورة الحج {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}.

فمعنى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى} في هذه الآية دعا قومه كما نص على ذلك القاضي عياض في كتاب الشفا، ومعنى {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي يزيد الشيطان على ما قالوه ما لم يقولوه ليوهمَ غيرَهم أن الأنبياء قالوا ذلك الكلامَ الفاسد، وليس معناهُ أن الشيطانَ يتكلَّمُ على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.

إن كل نبيّ كان يقرأ على قومه ثم الشيطان يُلقي إلى الناس كلامًا غير الذي يقرؤونه أي يزيد للناس من كلامه على ما قاله النبي ليوهم الناس أن النبي قال ذلك أي ليفتنهم، فينسخ الله ما يلقي الشيطان ويثبت ما يقرؤونه – أي الأنبياء – وذلك ابتلاء من الله تبارك وتعالى، وليس في أي كتاب معتبر أن الشيطان يلقي على ألسنة الأنبياء كلامًا وإلا لارتفعت الثقة في كلامهم ولقال الناس لعل هذا من إلقاء الشيطان فلذلك استحال حصول ذلك فلا أصل لما في كتاب «تفسير الجلالين» في الجزء الثاني ففيه غلط وكلام باطل، في تفسير سورة الحج عند قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52].

يقول الكاتب: وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النجم بمجلس من قريش بعد {أَفَرَأَيْتُمُ اللاََّّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} بإلقاء الشيطان على لسانه من غير علمه صلى الله عليه وسلم: «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى» ففرحوا بذلك وكانوا بالقرب منه مع المسلمين، وقالوا ما ذكر ءالهتنا بخير قبل اليوم فجاء جبريل وقال له: هذا ليس من القرءان فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله الآية تسلية له {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ}.

 

الرد:

هذه الرواية غير صحيحة، وحصول قراءة شيء غير القرءان على ظن أنه قرءان مستحيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو معصوم من ذلك، فقد قال الفخرُ الرازي في «التفسير الكبير»([1]): «يكفر من اعتقد أن الشيطان أجرى كلامًا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم هو مدح الأوثان الثلاثة اللات والعزى ومناة، بهذه العبارة: «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى» إذ يستحيل أن يمكّن اللهُ الشيطانَ من أن يُجري على لسان نبيه مدحَ الأوثان».

وإيضاح هذه القضية أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم كان يقرأُ ذات يومٍ سورةَ النجمِ فلما بلغَ {أَفَرَأَيْتُمُ اللاََّّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} انتهز الشيطانُ وقفةَ رسولِ صلى الله عليه وسلم وسَكْـتَـتَـهُ فأسمعَ الشيطانُ المشركينَ الذينَ كانوا بقرب النبي مُـوهمًا لهم أنه صوت النبي هذه الجملة: «تلكَ الغرانيقُ العُلى وإن شفاعتهن لتُرتجى» ففرحَ المشركون وقالوا ما ذكرَ محمدٌ ءالهـتنا قبل اليوم بخير، فأنزل الله لتكذيبهم هذه الآية التي في سورة الحج: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أي يكشفُ الله ما يقوله الشيطانُ ويُبينُ أنه ليس من الأنبياء، وذلك ابتلاءٌ من الله وامتحانٌ ليتميّزَ من يتبعُ ومن لا يتبعُ، فيهلك هذا ويسعد هذا.

قال النسفي في تفسيره ما نصه([2]): ولأنه تعالى قال في صفة المنزل عليه – أي على النبي صلى الله عليه وسلم – {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ}.

وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فلما بطلت هذه الوجوه – حيث ذكر احتمالات وردّها – لم يبق إلا وجه واحد وهو أنه عليه السلام سكت عند قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} فتكلم الشيطان بهذه الكلمات متصلًا بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم فوقع عند بعضهم – من المشركين – أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي تكلم بها فيكون هذا إلقاء في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم – وكان الشيطان يتكلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويُسمَعُ كلامه، فقد رُوي أنه نادى يوم أحد ألا إن محمدًا قد قتل، وقال يوم بدر: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم». اهـ.

 

وقال المحدث عبد الله الغماري في كتابه «بدع التفاسير»([3]) عن القصة المكذوبة التي يزعمون فيها أن الشيطان تكلم على لسان النبي بغير علمه، ما نصه: «فهذه القصة وتسمى قصة الغرانيق باطلة»، وقال: «وأول نكارة في تلك القصة: تسلط الشيطان على النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء شيء على لسانه وهو لا يعلم، مع أن من البديهيات العقلية عصمة النبي من الشيطان، فكيف تمكن منه في هذه الحادثة؟!»، ثم قال: «ثم كيف خفي عليه الفرق بين إلقاء الملك وإلقاء الشيطان؟! ولئن جاز الاشتباه عليه في هذه الحادثة، جاز الاشتباه في غيرها، فترتفع الثقة بالوحي ثم كيف خفي تناقض الكلامين! إذ (الأخرى) صفة ذم، وكلام الشيطان المقحم مدح، وهل يجوز في عقل أن يمتزج كلامان متناقضان على لسان أفصح العرب وأعلمهم بكلام الله تعالى، ثم لا يشعر بتنافيهما!! ثم بعد هذا كله كيف يسلّي الله نبيّه بأن جميع الرسل تمكن الشيطان أن يُلقي على لسانهم ما لم يوحَ إليهم وما معنى العصمة الواجبة في حقهم عقلا؟!». اهـ.

وقال الشيخ محمد بن درويش الحوت في كتابه «أسنى المطالب»([4]): «فهذه القصة – أي قصة الغرانيق – كذب مفترى كما ذكر هذا غير واحد ولا عبرة بمن قوَّاها وأوَّلَها إذ لا حاجة لذلك»، ثم قال: «وليس فيه ذكر قصة الغرانيق أصلا»، وقال([5]): «وقول ابن عباس رضي الله عنه في تفسيره أن (تمنى) معناه تلا وقرأ». اهـ.

 

 

([1]) التفسير الكبير (المجلد الثاني عشر الجزء 23 من ص44 إلى ص47).

([2]) تفسير النسفي (3/107).

([3]) بدع التفاسير (مكتبة القاهرة، الطبعة الثالثة 1426هـ ص74).

([4]) أسنى المطالب (دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية 1403هـ ص209).

([5]) المصدر نفسه، (ص210).