السبت نوفمبر 8, 2025

الدَّرسُ الثّانِي والعِشرُونَ

ءادَمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ

الحمدُ لله ربّ العالمين لهُ النّعمةُ ولهُ الفَضل وله الثّناءُ الحسَن، صَلواتُ الله البَرّ الرحيم والملائكةِ المقرّبين على سيّدِنا محمدٍ أشرف المرسلينَ وعلى جميع إخوانِه الأنبياءِ والمرسلين وسلامُه عليهم أجمعين.

أمّا بعد، فإنّ الله تبارك وتعالى جعَل عبادَه المؤمنينَ على درَجاتٍ في الفَضل عندَه، فأعلَى المؤمنينَ عندَ الله درجةً بينَ أفراد البشَر همُ الأنبياء، أوّلُ نَبيّ هو ءادمُ عليه السلامُ وهو أوّلُ البَشر ثم خُتِموا بمحمّدٍ صلّى الله عليه وعلى جميع إخوانه الأنبياء وسلَّم فلا يَأتي بعدَ محمّدٍ نبيٌّ لأنّ اللهَ تعالى شاءَ في الأزل وعلِمَ في الأزل أن يكونَ محمّدٌ ءاخرَ الأنبياء.

بحسَب الوجود الخارجيّ لم يكن قبلَ ءادمَ نبيّ، فأوّلُ أنبياءِ الله هوَ أوّلُ فَرد منَ النّوع الإنسانيّ وهوَ ءادمُ عليهِ السّلام، ءادمُ خَلْقٌ مِن خَلقِ الله مُشَرّفٌ مُكَرَّم عندَ الله لذلكَ أسجَد الملائكةَ له. الله تعالى أسجَد ملائكتَه المكَرَّمِين إكرامًا لآدمَ، أي أمرَهُم بالسّجُود لهُ تحيّةً وإكرامًا وتَعظيمًا لآدمَ لا عِبادةً لهُ، لأنّ الله لا يأمُر بعبادةِ غيرِه، وفي ذلكَ إعْلامٌ للملائكةِ بأنّ هذا الخَلقَ الجديدَ الذي خُلِقَ بعدَهم وبَعدَ الجِنّ عندَ الله لهُ شأنٌ عظيمٌ، عندَ الله لهُ فَضلٌ عظيم.

ثُمّ اللهُ تَبارك وتعالى أكرَمَ ءادمَ بأن علّمَه بعدَ أنْ خَرج مِنَ الجنّة أصولَ المعيشة، هو الذي علّمَ الناس كيفَ يُبذَر البَذْر حتى تُخرِج الأرضُ نبَاتًا يتّخذُه الإنسانُ قُوتًا وهو الذي ضَربَ الدّراهمَ والدّنانيرَ، ضرَب العُملتَين عملةَ الذّهَب وعُملَة الفضةِ بتَعليمٍ مِنَ الله تعالى.

بعدَ أن نزلَت عليه النبوّةُ كانَ يأتيْه الوحيُ فالله تعالى علّمَه كيف شاءَ، أشياءَ تعَلّمَها مِنَ الملَك بأمر الله وأشياءَ تعَلّمَها بإفاضَةٍ على قَلبِه، اللّغاتُ علّمَه الله تعالى مِن غير أن يُعلّمَه أحَدٌ لا ملَكٌ مِن الملائكة ولا جِنّ، ثم علَّم أولادَه، رَزقَه الله تعالى نحوَ ثمانينَ ولدًا ما بينَ ذكُورٍ وإناث،ٍ وزوّجَ بعضَهم مِن بَعض ولم يُزوّج واحِدًا منهُم مِن جِنّية ولا مِن حُوريّةٍ مِن الحُور العِين. فمَن قال إنّ ءادمَ كانَ يُزوّجُ بعضَ بنِيْه منَ الحُوريّاتِ فهو كذِبٌ، إنّما كانَ يُزوّجُ بعضَ أولادِه ببَعض، الذّكورَ بالإناثِ، لكنْ كانَ حَرامًا علَيهم أن يتَزوّجَ هذا مِن تَوْأَمَتِه، كانت حَوّاءُ تَلِدُ توأمًا كلَّ مَرّةٍ قيلَ إلا مرّةً واحِدة فإنها ولَدَت ذكَرًا واحِدًا ليسَ له توأمَةٌ، أمّا تزَوُّجُ أحدِهم مِنَ الأنثى التي هي توأمتُه كانَ حرامًا، كانَ زنًى، ما كانَ الإنسانُ مُهمَلًا كوحشٍ مِنَ الوحُوشِ كما يقولُ كثيرٌ منَ النّاس.

وجاءَ في حديثِ رسول الله ﷺ أنّه قال: «إنّ ءادمَ كانَ طُولُه ستِّينَ ذراعًا» رواه أحمد والطبراني. ليسَ الذّراعَ الحَديديّ( ) بل الذّراعُ اليَدويّةُ، كانَ طُولُه سِتّينَ ذراعًا وعَرضُه سبعةَ أذرع. أهلُ الجنّةِ يومَ القيامةِ القَصيرُ والمتوسّطُ والنّحيفُ كلٌّ يكونونَ عندَ دخُول الجنةِ على صورةِ ءادمَ، يحَوّلهمُ الله إلى صُورةِ ءادَمَ، والأنبياءُ كلُّهم كانوا ذَوي الحُسْن والجمَال وكلُّهم كانوا أذكياءَ فُطَناءَ، حتى موسى عليهِ السّلام الذي تأثّر لسانُه بالجمرة التي تَناولها ووضَعَها في فمِه حينَ كانَ طِفلًا أمامَ فِرعونَ لحِكمةٍ، ما تركَتْ تلكَ الجمرةُ في لِسانه أن يكونَ كلامُه غيرَ مُفهِم للنّاس بل كانَ كلامُه مُفْهِمًا لا يُبدِلُ حَرفًا بحرف بل يتكلَّم على الصّوابِ لكنْ كانَ فيه عُقدَةٌ خَفيفةٌ مِن أثَرِ تِلك الجمرة، ثم دعَا اللهَ لَمّا نزَل عليه الوحي قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) سورة طه . فأذهَبَها اللهُ عنه.

الحاصلُ أنّ أنبياءَ الله كلَّهم أصحابُ خِلْقةٍ سَوِيّةٍ، لم يكن فيهم ذو عَاهةٍ في خِلقتِه ولم يكن فيهم أعرَجُ ولا كَسِيحٌ ولا أعمَى، إنّما يعقوبُ مِن شِدّةِ بُكائِه على يوسفَ ابيَضَّتْ عَيناه مِن شِدّة الحُزْن، ثُمّ ردَّ الله تعالى عليهِ بصَرهُ لمّا أرسَل يوسفُ بقميصِه مِن مِصر إلى مَدينَ البلدةِ التي فيها أبوه، مِن رِيحِ يوسُفَ، الله تعالى جعلَه يَشَمُّ رِيحَ يُوسُفَ فارتَدّ بصيرًا. هو لم يكن أعمى مِن أصل الخِلْقة ولا كان بها عمًى قبلَ هذه المصيبةِ التي أصابَتْه بفَقْد ابنِه يوسُف، فمَن يقولُ: إنّ ءادمَ عليه السلامُ كانَ متَوحّشًا قصيرَ القامةِ شَبِيهًا بالقِرْد فهو كافر. اللهُ تعالى خلَقَ البشَرَ في أحسَن تقويم([1]) كما قال تبارك وتعالى في سُورة التِّين: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ([2]).

 القِردُ ليسَ أحسَنَ تَقويم بل مِن أقبَح الشّكلِ القِرْدُ بدَليل أنّ اللهَ تعالى مَسَخ قومًا مِن بني إسرائيل عصَوا ربّهم وآذوا نبيَّهم، فمسَخهم اللهُ قِردةً، نصَحُوهم بعضُ المؤمنين وبعضُ الناسِ سكَتُوا فكانَ الناسُ في أمر هؤلاء الذينَ مُسِخوا قِردةً على ثلاثةِ أصناف، صِنفٌ نهَوهم قالوا لهم اتّقُوا الله([3]). اللهُ تَعالى لِيَبتَلِيَهُم حَرّمَ عَلَيهِم أن يَصطَادُوا الصّيدَ يومَ السّبت، ثم عَمِلوا هم احتِيالًا كانوا يَصطَادُونَ يَومَ السّبت([4]).

لو كَانَ أَصْلُ البشَر قِرَدةً لمسَخَهُم إلى شَكلٍ ءاخَرَ، وهؤلاءِ عُلَماؤهم كانوا يَنهَونهم، قالوا لهم اللهُ حَرّم علَيكم أن تَصطادوا السّمَكَ يومَ السّبت كُفّوا عن هذا يَنصَحُونَهم فلا يَنتَصِحُونَ. أهلَكَهُمُ الله تعالى بسَبب عِصيانِهم لربّهم بارتكابِ ما نُهوا عنهُ.

اللهُ تبَاركَ تعالى يَنتَقِمُ مِن عبَادِه في الدُّنيا ببَعض ذنُوبهِم، ومِن جملَةِ هَذهِ الذّنوبِ تَركُ إنكارِ المنكَر، النّاسُ إذا رأَوا النّاسَ الذينَ يَعصُونَ اللهَ وفي استِطَاعَتِهم أن يَنهَوهُم ثم لا يَنهَونَهُم هَذا يَجلِبُ لهم للّذين سكَتُوا العقُوبَةَ في الدّنيا، البَلايا تَكثُر علَينا في هذا الزّمن لهذا، جزَاءً على تَركِ النّهي عن المنكر.

أمّا كلمةُ “الإنسانُ حَيوانٌ ناطِقٌ” معناهُ الإنسانُ شىءٌ ذُو رُوح، هذا كلامٌ صَحِيح، الملائكةُ حيوانٌ ناطقٌ والجنّ حيوانٌ ناطقٌ كلُّ ذي روح يتَكلّم فهو حيَوانٌ ناطِقٌ، ومُقابلُ الحيَوان الجماد، فالأجرامُ قِسمان جِسمٌ جمادٌ أي لا يَنطِقُ ولا روحَ فيه وجِسمٌ حيوانٌ، ثم الجِسم الذي هو حَيوانٌ ينقَسِم إلى قِسمَين: نَاطقٌ وغيرُ ناطِق، والإنسَانُ مِنَ الجِسم الذي هو ناطِق، حَيوانٌ معناه ذو الرّوح والنّاطِقُ هو الذي ينطِق النّطقَ العَاديَّ الذي نَحنُ نَألَفُه ونَعرفُه.

 فمَن اعتقَدَ أنّ ءادمَ ليسَ بنَبيّ فهو كافِرٌ ومَن اعتقَد أنّ قَبلَ ءادم كانَ نبيّ ظَاهرًا وباطنًا فهوَ كافر.

 أمّا مَا ورد في الحديث في حقّ سيّدِنا محمدٍ ﷺ بأنّه قال: «كُتِبتُ نبيًّا وآدَمُ بينَ الرُّوحِ والجَسد» رواه الطبراني. ذاكَ لا يُعبّر عن جسَدِه عن هَيكَلِه الجِسمانيّ مع رُوحِه، لا، ذاكَ تفسيرُه أنّ الرّسولَ كانَ لما كانَ ءادمُ بينَ الرّوح والجسَد أي لم تتِمّ خِلقتُه، ما صارَ إنسانًا تَامًّا، أي قَبلَ أن يُركَّبَ فيهِ الرُّوحُ، قبلَ أن يُركَّبَ في ءادمَ الرّوحُ كانَ سَيّدُنا محَمَّدٌ نَبيًّا أي كانَ مُشتَهرًا بينَ الملائكةِ بوَصفِ النّبُوّةِ والرّسالَة، الملائكةُ كانُوا يَعرفُونَ أنّه سَيأتي نَبيّ اسمُه محمّدٌ، باعتِبَارِ هَذا الوَصفِ كَانَ الرّسُولُ نبيًّا عندما كانَ ءادمُ بَينَ الرُّوحِ والجَسَد، لا بمعنى أنّ سيّدَنا محمّدًا كانَ مخلوقًا في ذلكَ الوقتِ، لم يكن الرسولُ مخلُوقًا لما كانَ ءادمُ طِينًا لم يُركَّب فيهِ الرُّوح، لأنّهُ ظَلّ طِينًا في الجنّة زَمانًا ثم تَحوَّلَ هذا الهيكَلُ البشَريُّ الذي هو طِينٌ يابسٌ إلى لحم وعَظْم ودَم ثم رُكّبَ فيهِ الرُّوحُ.

هذا معنى حديث الرّسول صلى الله عليه وسلم : «كُنتُ نَبيًّا وآدَمُ بَينَ الرّوحِ والجَسَد» رواه الطبراني. كِلا اللّفظَين لهذا الحديث صَحِيحٌ، وهذا الحديثُ لهُ مُقدّمةٌ رجُلٌ يُقَالُ له مَيسَرةُ الفَجْر قالَ مَتى كُتِبتَ نَبيًّا يا رسولَ الله فقال: «كُتِبتُ نَبيًّا وآدَمُ بينَ الرُّوحِ والجَسَد»، وفي لفظٍ مَتى كُنتَ نَبيًّا يا رسولَ الله قال: «كُنتُ نَبيًّا وآدَمُ بَينَ الرُّوحِ والجَسَد»، المعنى أنَا كُنتُ مَشهُورًا بوَصْفِ الرّسَالةِ في ذلكَ الوقت الذي لم يتِمّ تَكوينُ هَيكَل ءادمَ، قبلَ أنْ يَتِمّ تَكوينُ هَيكَل ءادمَ كانَ سيّدُنا محمّدٌ مَشهُورًا بوَصْف الرّسالةِ عندَ الملائكة، هذا المعنى ليسَ المعنى أن سيّدنا محمّدًا كانَ مخلوقًا قَبلَ ءادمَ، أمّا رُوحُه ﷺ فيَجوز أن يكونَ خُلق قبلَ روحِ ءادم، أمّا هَيكلُه المؤلَّفُ مِن جسده ورُوحِه هذا بَعدَ ءادم، بل بعدَ كلّ الأنبياء بعدَ ارتفاع المسيح إلى السّماءِ بما يَقرُب مِن سِتِّمائة سنةٍ خُلِق سيّدنا محمدٌ.

آدمُ مَا خُلِق دَفعةً واحدة مركّبًا مِن رُوحٍ وجسَد في لحظةٍ واحِدةٍ بل قبَض الله تعالى تُربَة ءادَم مِن جميعِ أجزاءِ الأرضِ أي أمَرَ ملَكًا مِن ملائكَتِه بأنْ يَقبِضَ تُربةً مِن جميع أجزاءِ الأرض مِن أسودِها وأبيضِها وسَهلِها وحَزْنها مِن جميع أنواع التّراب، هذا الملَك بأمرِ اللهِ قبَض قَبضَةً ثم رفَعَها إلى الجنّةِ فعُجِنَت هناك، هذه القَبضةُ عُجِنَت بماءِ الجنّة فظَلّ ءادمُ طِينًا بُرهةً من الزمن لا يَقِلُّ عن أربعينَ يومًا ظَلّ طينًا، ثم صارَ هذا الطّينُ يابسًا كالفَخّار، ثم بَعدَ ذلكَ بمدّةٍ يَعلَمُها اللهُ تحَوّل إلى لحم وعَظمٍ ودَم، ثم بعدَ ذلك نفَخ اللهُ فيه رُوحَه أي أدخَل فيه روحَه أي الرّوحَ التي هو خلَقَها وشَرّفَها وكرّمَها، وعن ذلك قال الله تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (29) سورة الحِجر. اللهُ تَعالى خَاطَب الملائكةَ فإذَا سَوّيتُه أي هذا البَشرَ ونفَختُ فيهِ مِن رُوحِي أي الرّوحِ التي هي مِلْكٌ ليْ وخَلْقٌ ليْ مُشَرّفةٌ عندي فقَعُوا أيّها الملائكةُ لهُ أي لهذا البشَر ساجِدين أي تعظِيمًا لهُ وإكْرامًا.

 قالَ العلَماءُ: مَن ادَّعَى النّبُوةَ لنَفسِه أو صَدّق مَن ادّعَاها([5]) فهوَ مُرتدّ كافر.

المسيحُ كانَ مُنَبَّئًا قَبلَ محمَّدٍ بسِتّمائةِ سنةٍ تَقريبًا وسيَنزلُ كمَا أَخبَر سيّدُنا محمّدٌ ينزلُ المسِيح مِن السّماء إلى الأرض ويَحكُم بشَريعةِ محمّدٍ لا بشَريعتِه لأنّ شَريعتَه انتَسَخَت، كلّ شَرائع الأنبياءِ انتَسَخت، ما كانَ في بعض الشّرائع السّابقةِ أي قبلَ محمّدٍ حَرامًا ثم أُحِلّ في شَريعةِ محمّد فهو حلالٌ، لأنّ شَرعَ محمّدٍ نَسَخ ما قَبلَه، اللهُ تَعالى أوحَى إلى كلّ نَبيّ بأنّه يأتي محمّدٌ فمَن أدركَ محمّدًا فلْيؤمِن به ولْيَنصُره، أخَذَ العَهدَ والميثاقَ على كلّ نبيّ، كلُّ نبيّ كانَ يَعرفُ محمّدًا، وهَذا مِن علُوّ مَقام سيّدِنا محمّد عندَ الله. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) ءال عمران.

اللهُ تَعالى يَعلَمُ أنّ محَمّدًا لا يَأتي إلا بعدَ ءالافٍ مِنَ الأنبياءِ يَسبِقُونَه لكنْ تَنويهًا لشَرفِ محمّد أوحَى إلى كلّ نَبيّ بأنّهُ سَيأتي محمّدٌ فمَن أدركَه فلْيؤمِنْ به ولْيَنصُرْه، فما مِن نَبيّ إلا وقَد علِم بالوَحْي مِن الله أنّ نبيًّا اسمُه محمّدٌ سيأتي، وكذلك كلّ نبيّ أَخبَر أُمّتَه حتى الجِنُّ كانوا يَعرفونَ،  بعضُ الجنّ طِوالُ الأعمَار ليسُوا مثلَنا كانَ جِنيّ في زمَن المسيح يُمكن أن يكون خُلِقَ قبلَ المسِيح بألفِ سنَةٍ أو ألفَي سنةٍ أو أكثَر عاشَ إلى أن خُلِق سيّدُنا محمد ثم بُعِث، نزَل عليهِ الوحي.

ثُمّ أوّلَ مَا ظهَرَ سيّدُنا محمّدٌ في مكّةَ قبلَ أن يَنتَشرَ خبرُه كانَ عَلِم بخَبرِ سيّدنا محمّد  أنّ هذا النبيَّ المنتَظرَ المبشَّرَ بهِ ظهَر في مكّة ووجَدَ ركْبًا مجتَازينَ قاصِدينَ مكّة، هو كانَ بأرضٍ مِن أرضِ اليَمن وجَد ركْبًا مِن البشَر قاصِدين إلى مكّةَ وهم كفّارٌ مُشركونَ من أهلِ الجاهلِيّة فسمِع كلامَه ومِن جُملةِ ما سمِع أنّ محمدًا سيأتي فمَن أدركَه فلْيؤمِنْ به، ثم هذا الرّكْبُ نزلُوا بأرضٍ بريّةٍ فنَامُوا إلا واحِدًا منهُم يُقال له الجَعدُ بنُ قَيسٍ مِن بني مُرادٍ، هذا سمِع صوتًا لا يرَى شَخصَه يُخاطِبُه بكلام شِعر ثلاثةِ أبياتٍ مَضمونُها أنّه يُوصِي هؤلاءِ الرّكْبَ بأنّهم إن وصلُوا إلى مكّة يُبَلّغُوا عنهُ قالَ لهم :  (الطويل)

ألا أيّها الركْبُ المعَرّسُ بَلّغُوا             إذا مَا وَقَفتُم بالحَطِيْمِ وزَمزمَا

محمّدًا المبعُوثَ مِنّا تحيَّةً                  تُشَيّعُهُ مِن حَيثُ سَارَ ويمَّمَا

وقُولُوا لهُ إنّا لدِينِكَ شِيعَةٌ               بذلكَ أوصَانا المسيحُ بنُ مَريمَا

وكانَ ذلكَ سبَبُ إسلام الجَعْد بنِ قَيسٍ المرادِيّ، لمّا وصَلُوا إلى مَكّةَ سَألوا بعضَ أهلِ مَكّةَ عن محمّدٍ، قَبلَ ذلكَ ما كانُوا سمِعوا، لأنّ بينَ مكّةَ واليَمنِ مسَافةٌ بعيدَةٌ، الحاصلُ أنّ الأنبياءَ كلَّهُم كانَ عندَهم عِلْمٌ بمحَمّدٍ وذُكِرَ نَعْتُ محَمّدٍ في التّوراةِ الأصلِيّةِ وفي الإنجيلِ الأصليّ، كانَ مَذكُورًا نَعتُ محمّدٍ ونَعتُ أُمّتِه، مَدَحَ الله تعالى في التّوراةِ والإنجيلِ أمّةَ محمَّدٍ، الإنجيلُ باللّغةِ السُّريانيّةِ والتّوراةُ باللّغةِ العِبْريةِ.

بَحِيرا لمّا التقَى برسول الله ﷺ كانَ عُمرُ رسولِ الله عَشْرَ سَنَواتٍ أو ثَمانيَ سَنَواتٍ أو اثنَتَي عَشْرَةَ سَنةً، وكانَ رسولُ اللهِ جاءَ مع رَكْبٍ مِن قُرَيشٍ معَ قَافلةٍ فيها عمُّه أبو طالِب، فنظَرَ بَحِيرا إلى هذا الرَّكْب أو القَافلَة فرأى واحِدًا مُنفَرِدًا تُظِلُّه الغَمامَةُ ،ورأَى أشجَارًا سَاجِدَةً، فقَال هذا الأمرُ ليسَ إلا لنَبيّ مَا، فنزَلَ فتَصفّحَ وجُوهَهم، صارَ يَسألُهم عن سيدِنا محمَّدٍ مَن أبو هَذا، فقيلَ لهُ أبو طالِب، قالَ لأبي طَالب أنتَ أبوه، قالَ هوَ ابنُ أخي([6]) فازدَادَ يَقِينًا بأنّ هَذا هوَ النّبيُّ الذي بشَّرَ بهِ المسِيحُ عيسَى علَيهِ السّلام، ثمّ الرّسولُ رجَعَ إلى بلَدِه مَكّةَ والقَافِلةُ نفّقَت تجارتَها ثم رَجعَت إلى مَكّة، لكنْ هَذا بَحِيرا أوصى أبا طَالبٍ بأن يُرجِعَ الرّسولَ إلى بلدِه، قال: أنا أخشَى عليه منَ اليهود، فردَّه وكَّلَ بهِ مَن يُرجِعه إلى مكةَ، ثم لم يَعُد إلى مُلاقاةِ بَحِيرا، جاءَ بعدَ أن صارَ عمُره خمسةً وعشرينَ سنةً، جاءَ الرّسول للتّجَارة إلى تلكَ الأرض البلدةِ التي كان يَعيش فيها بَحِيْرا لكن لم يجتَمِع به، وكأنّهُ ماتَ، وبَحِيرا هذا يجُوز أن يكونَ كانَ على الإيمانِ على شَريعَةِ المسِيح عيسى، وكانَ مصَدّقًا بأنّ محمّدًا سيُنبّأ، نَظُنّ فيه أنّه كانَ منَ الموحِّدِين. وسُبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، واللهُ تعالَى أعلَمُ.

([1])  أي في أحسَنِ صُورةٍ.

([2])  قال القرطبي في تفسيره  فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وهو اعتِدالُه واستواءُ شبابه، كذا قال عامَّة المفسرين. وهو أحسَن ما يكونُ لأنّه خلَق البهائم مُنكَبّةً على وَجهها، وخلَقَه هوَ مستَويًا، وله لسانٌ ذَلقٌ، ويَدٌ وأصابعُ يَقبِض بها. وقالَ أبو بكرِ بنُ طَاهر مُزَيّنًا بالعَقل، مُؤدّيًا للأمر، مَهدِيًّا بالتّميِيز، مَديدَ القَامَةِ، يتَناولُ مَأكولَه بيدِه.

وقال السّيوطيّ في الدّرّ المنثور: قالَ ابنُ عَبّاس في قَولِه تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)  قال: في انتِصَابٍ، لم يُخلَق مُنكَبًّا على وَجْهِه.

ورَوى ابنُ جَرير عن مجاهد قال في قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)  قالَ في أحسَن صُورَة. وقالَ أبو حَيّان في تفسِيرِه البَحرِ المحيط: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)  . قالَ النَّخَعي ومجاهدٌ وقتَادة: حُسنُ صُورَتِه وحَواسّه. وقيلَ: انتِصَابُ قَامَتِه. وقالَ أبو بكرِ بنُ طَاهر: عَقلُه وإدراكُه زيّناه بالتّميِيز. وقالَ عِكرِمَةُ شَبابُه وقُوّتُه، والأَولى العمُومُ في كلّ ما هوَ أَحْسَن. ورَوى الطّبري في تفسيره عن ابنِ عباس: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)   قال: في أَعْدَلِ خَلْق.ورَوى عن مجاهِد وقتَادةَ قالا في أحسَنِ صُورَة. قال النّسَفيّ في تفسيره فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) في أحسَن تَعدِيلٍ لِشَكْلِه وصُورَتِه وتَسويَةِ أعضَائه.

([3])  وفِرقَةٌ تَنحَّت ولم تَنْهَ وفِرقَةٌ عَصَت وصَادَت.

([4])  ويُبقونَها في الماء مَربُوطَةً أو محجُوزةً مُغْلَقًا عليهَا ثم يخرجُونها في اليوم التّالي لأكلِها. ثم لمّا مُسِخُوا قِرَدَةً النّاسُ كانوا يُريدُون أن يَرَوهُم ويَطّلِعُوا علَيهم فتَسَوّرَ بَعضُ النّاسِ السُّورَ سُورَ البلَد فنَزلَ ففتَح البابَ فأَقبَلوا هؤلاء الذينَ مُسِخُوا قِرَدةً. هُم لا يَعرفونَ أنّ هذا قَريبُهم وأنّ هذه قَريبَتُهُم لا يميّزونَ بينَهم، هيَ القِردةُ تأتي تَقترب مِن هذا ومِن هذا، القِردَة تَعرفُ أنّ هذا قريبُها الفلانيَّ وأنّ هَذه قَريبَتُها الفلانيّةُ يَبكُون، يتَمسّحُون بهم فيَبكُون، الذينَ غَضِبَ الله علَيهم مَسَخَهُم قِردَةً. قال الله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66).سورة البقرة.

([5])  أي بعدَ محمّد.

([6])  لأنّ أبَاه متَوفًّى.